هادي درابيه
توقع الكثيرون أن يأتي الرد الروسي حادًا على إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، خاصة في ظل صراع النفوذ في منطقة الشرق الأوسط بين موسكو وواشنطن، إلا أن موقف الكرملين والخارجية الروسية لم يتعد التأكيد على ضرورة الالتزام بالقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، ووصف القرار الأمريكي بالمخالف للمنطق السليم.
ورغم الرفض الرسمي لقرار ترامب، سارع عدد ملحوظ من وسائل الإعلام الروسية بلهجات متفاوتة لمباركة هذا القرار والإعراب عن دعمه، فصحيفة «نوفايا غازيتا» كتبت في إحدى مقالاتها «في الواقع، إن نقل عاصمة إسرائيل إلى القدس لحظة تاريخية مهمة، وكان ينبغي أن تحدث في وقت ما». مشيرة إلى أنه «إذا كان وضع القدس لا يؤثر في عملية استعادة السلام «لأنه ثابت في الواقع»، فربما يكون تغيير وضع القدس سيساعد هذه العملية وسيجعل الفلسطينيين يكفون عن ممارسة إدانة إسرائيل في أعين المجتمع الدولي».
في حين أشارت «القناة الأولى» التلفزيونية الروسية إلى أن «إدارة ترامب تحاول الوصول إلى حل لقضية الصراع العربي الإسرائيلي»، غير أن «السلطة الفلسطينية لا تريد ذلك، لتواصل مراكمة الثروات من الدعم المالي الذي تتلقاه»، وهي تواصل وضع العراقيل أمام عجلة السلام للحفاظ على ما وصفته بـ«البزنس المربح» للفلسطينيين.
كما كان ملحوظـًا في تغطية الإعلام الروسي لـ«جمعة الغضب»، والمواجهات التي عمت القدس المحتلة ومدن الضفة الغربية وقطاع غزة، تركيز المراسلين الروس على مدى «ضبط النفس» من قبل الجيش والشرطة الإسرائيليين أمام «استفزازات الفلسطينيين»، كما سارعت إلى عد الصواريخ المطلقة من قطاع غزة، في حين تجاهلت أعداد الشهداء والجرحى الفلسطينيين.
يعكس تعاطف وسائل الإعلام الروسية مع إسرائيل ووجهة نظرها وتأويلها للمعطيات، سعيها لقراءة سياسات الكرملين غير المعلنة وفق وجهة نظرها. فمن المعروف أن روسيا صديقة حميمة لإسرائيل، وفي الأخيرة يعيش ملايين اليهود ذوي الأصول الروسية والسوفيتية. وظهر عمق العلاقات بين الدولتين، أثناء التدخل الروسي في الأزمة السورية، إذ بقي المجال متاحًا أمام الطيران الإسرائيلي لخرق الأجواء وقصف المنشآت السورية، في حين ضمنت موسكو منطقة آمنة على الحدود السورية الإسرائيلية.
إلا أن الموقف الروسي الحقيقي، يختلف عن فهم وسائل الإعلام الروسية له، ففي العلن، يرفض الكرملين تهويد القدس بكاملها وإعلانها عاصمة لإسرائيل، وهذا بالتأكيد يخدم مساعي روسيا لكسب ثقة شعوب الشرق الأوسط، وهو أيضًا فرصة جديدة، تسمح لموسكو بأن تستعرض مجددًا التزامها بأحرف القانون الدولي، الذي نجحت خلال السنوات القليلة الماضية في امتطائه لتبرير خطواتها وتمرير مبادراتها في سوريا.
أما موقف موسكو الحقيق من مدينة القدس ووضعها الحالي والمستقبلي، فهو مغاير لما أُعلن عنه، في التصريحات الرسمية، غير أن أوساطـًا روسية مقربة من الكرملين ومن المرجعيات الدينية تدركه، وتدرك حساسية الأمر وضرورة الإبقاء على الآراء والمخططات غير معلنة.
ولفهم حقيقة الموقف الروسي، لا بد من الاطلاع على آراء المرجعيات الدينية الروسية وتصريحاتها، إذ من غير الممكن النظر في وضع مدينة القدس ومصيرها، دون الخوض في الحيثيات الدينية، حتى في روسيا، البعيدة ظاهريًا عن القدس والصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
على الصعيد الديني، انقسم المجتمع الديني اليهودي الروسي بين مؤيد ورافض للقرار. إذ اختلفت آراء حاخامي روسيا الرئيسيين. وبالمناسبة، يوجد الآن في روسيا حاخامان رئيسيان، عن «اتحاد المجتمعات اليهودية في روسيا»، وعن «مؤتمر الطوائف والمنظمات الدينية اليهودية الروسية».
بيرل لازار، كبير حاخامات روسيا وفق «اتحاد المجتمعات اليهودية في روسيا» «وهو إيطالي المواد، وأقام لفترة طويلة من حياته في الولايات المتحدة»، سارع إلى مباركة إعلان ترامب، مؤكدًا أن «إعلان دونالد ترامب هو استعادة للعدالة. تقريبًا في كل وقت وجدت فيه دول في هذه المنطقة ذات سكان يهود، كانت القدس عاصمتها».
أما زينوفي كوغان، نائب كبير حاخامات روسيا وفق «مؤتمر الطوائف والمنظمات الدينية اليهودية الروسية»، «روسي المولد والمنشأ» فكان أكثر حذرًا في تصريحاته، بل انتقد تدخل ترامب في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، مؤكدا أن «الشيء الأساسي الآن هو استمرار عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين» موضحًا أن الطرفين «يعرفان أفضل من الرئيس الأمريكي ما الذي يعنيه السلام في منطقتهم»، مشيرًا إلى أن «ترامب بعيد عن اليهود، في حين أن مئات الملايين من العرب هم جيران لإسرائيل. وعلى الإسرائيليين أن يفكروا بأنفسهم، وألا يعولوا على ترامب».
موقف الأخير يحافظ على التزام ضمني بالموقف الروسي الحقيقي، الهادف لعدم الخوض في حيثيات النزاع في المرحلة الحالية، وتركه لحين تغير موازين القوى الدولية، بشكل يسمح لموسكو بممارسة وتحقيق أهدافها الحقيقية.
وفي السياق ذاته، التزمت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية الصمت تجاه إعلان ترامب، ولم يصدر عنها أي رد إن كان بالرفض أو الدعم، وهذا الصمت يعكس أيضًا وعي أكثر السلطات الدينية نفوذًا في روسيا، بسياسات الكرملين، بل يؤكد التوافق غير المعلن، إذ إن للكنيسة في روسيا يد طائلة في العقيدة السياسية الروسية الحديثة، ومواقف روسيا وتحركاتها تعكس تكاملًا عضويًّا بين الكرملين والكنيسة، تأكد بسماح الكنيسة بجلوس الرئيس فلاديمير بوتين على عرش الإمبراطورية البيزنطية على جبل أثوس في اليونان.
وجبل أثوس يعد مكانًا مقدسًا للمسيحيين الأرثوذكس في العالم، وكان لدى الرهبان الروس وجود فيه منذ ألفي سنة، ويعتقد رهبانه والأرثوذكس الروس، بوجوب إحياء روسيا للإمبراطورية البيزنطية، واستعادة عاصمتها بيزنطة «مدينة القسطنطينية التركية حاليًا»، والتي كانت الإمبراطورية الروسية موعودة بتسلمها، في إطار اتفاقية بين روسيا وفرنسا وبريطانيا، لتقاسم أراضي الإمبراطورية العثمانية، إلا أن قيام الثورة البلشفية أحبط المساعي الروسية.
وموسكو الآن ومعها الكنيسة الأرثوذكسية تتطلع لإحياء هذه الإمبراطورية، والتحول إلى حامية مسيحيي الشرق، واتضح هذا التوجه في التنصيب الرمزي لبوتين إمبراطورًا على عرش بيزنطة في جبل أثوس.
أما مسلمو روسيا، فجاء موقفهم منسجمًا مع الطموحات الكنسية والسياسية للدولة، إذ دعا رئيس الجمعية الروحية الإسلامية الروسية ومفتي مدينة موسكو، ألبير كورغانوف، إلى نقل مقر الأمم المتحدة من نيويورك إلى القدس، التي تعد عاصمة الديانات السماوية الثلاث، مؤكدًا أنه «بات واضحًا أن الوضع يتطلب حل مسألة منح وضع دولي خاص لمدينة القدس، عبر الاتفاق ما بين ممثلي كافة الديانات، وفي المقام الأول الديانات السماوية الثلاث»، وهذا المسعى في حال تحققه، سيسمح لموسكو بالسيطرة بالقوة الناعمة على المدينة المقدسة، ولن يدفعها للدخول في مواجهات مباشرة مع اليهود والمسلمين.
إذن، يتضح من كل التصريحات الصادرة عن الهيئات الدينية الروسية، أنها لم تتطرق بشكل واضح إلى أن القدس عاصمة فلسطين، حتى ولو بشقها الشرقي. وهذا الموقف للمجتمع الديني الروسي، يبرز ملامح تطلعات روسيا بشأن مدينة القدس. إذ ترى الهياكل الدينية الروسية، أن القدس يجب أن تكون أرضًا روسية، أو على الأقل أن تكون تحت الوصاية الدولية، لتتمكن روسيا من السيطرة عليها دون نزاعات مباشرة مع الديانات الأخرى.
ومن وجهة النظر الدينية، يجدر ذكر أن المؤيدين لإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، هم بمعظمهم من البروتستانت المحافظين جدًا وأتباع «الصهيونية المسيحية»، الذين يؤمنون بأن عودة اليهود إلى الأرض المقدسة تعد شرطـًا ضروريًا لمجيء «المسيح المخلص»، وحلول نهاية العالم ومحاربة جحافل «يأجوج ومأجوج». أما الروس الأرثوذكس، فيؤمنون بأن مسيح البروتستانت المخلص، ليس سوى «المسيخ الدجال»، وظهوره بادرة لنهاية العالم، الأمر الذي لا يتحرقون شوقًا لاستعجاله.
وتقف هذه المعتقدات الدينية وراء صمت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، التي لا ترى في المسلمين أهلًا لامتلاك القدس وحمايتها، كما ترى أن وجود اليهود فيها تهديد بنهاية العالم، كما ينعكس هذا الموقف في تصريحات مرجعية المسلمين في روسيا، التي تطالب بمنح القدس وضعًا دوليًا، ما يعني انتزاعها من أيدي المسلمين العرب ومن مخالب اليهود.
وبالنظر إلى ارتباط سياسات روسيا الحديثة بالكنيسة، وتبنيها المعتقد الأرثوذكسي المحافظ بديلًا عقائديًّا للشيوعية التي أثبتت فشلها، وللفكر الليبرالي الغربي، الذي تعده تهديدًا للهوية الروسية، قد يكشف الكرملين مستقبلًا عن خططه لوضع مدينة القدس تحت الحماية الروسية الأرثوذكسية.
ومن الملاحظ أن موسكو تسعى الآن إلى الظهور بمظهر «المدافع عن مسيحيي الشرق»، وهذا الأمر برز قبل أيام خلال لقاء الرئيس فلاديمير بوتين مع بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق البابا يوحنا العاشر، حين أكد بوتين أن روسيا تلعب دورًا بارزًا في الدفاع عن المسيحيين ليس في سوريا وحدها بل في المنطقة. معللًا القلق الروسي بمشكلة «الاضطهاد الديني الذي بلغ ذروته في الشرق الأوسط».
ومن الواضح أن نشاط موسكو في هذا الاتجاه، يتخذ منحى تصاعديًّا، إذ ركزت على هذا الدور الديني منذ بداية التدخل العسكري في سوريا، كما نظمت موسكو خلال العامين الماضيين، عشرات الفعاليات والمؤتمرات التي هدفت إلى حشد أوسع تأييد لهذا التوجه، بما في ذلك على المستوى الإقليمي.
كما أن الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، تستعيد اليوم طموحات وتطلعات مضى عليها أكثر من قرن، بدأتها روسيا القيصرية في الشرق، وأحبطها اندلاع الثورة البلشفية، و70 عامًا من الحكم الشيوعي، ويبدو أن تعزيز روسيا لدورها ونفوذها في الشرق الأوسط اليوم، ليس سوى خطوة على درب تحقيق آمال الكنيسة بالوصاية على مسيحيي الشرق وعاصمتهم الروحية القدس.
عن ساسة بوست