يبدو أن نابليون بونابرت الإمبراطور الفرنسي الذي أثار الرعب داخل نفوس الأوروبيين في كل أنحاء القارة، وحظي بهيبةٍ واحترامٍ وسط حتى الدول التي غزاها، لا يحظى بنفس التقدير في بلده فرنسا. فهل يغير معرض أقيم في فرنسا حول نابليون وإنجازاته رأي الفرنسيين في إمبراطورهم؟
نشرت الجارديان البريطانية تقريرًا حول المعرض الضخم الذي –على حدّ وصف الصحيفة- يهدف إلى إقناع الفرنسيين أن الإمبراطور كان رجل دولة، وليس تاجر حرب. يقول المؤرخ البريطاني «أندرو روبرتس» إن وصف نابليون ربما يلائم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «بحذافيره»، فنابليون شاب فرنسي واسع الإطلاع متقد الذكاء صعد إلى السلطة، ملحقًا الهزيمة بجماعات اليمين المتطرف، يملؤه طموح لإصلاح فرنسا، وجعل فرنسا في القلب من القارة الأوروبية الموحَّدة. في حين تشكل مطالبة بريطانيا العظمى المستمرة بالتجارة الحرة مع القارة مصدر إزعاجٍ مستمر، فيعلن أن المهاجرين الفرنسيين الذين وجدوا في لندن ملاذًا وملجأ يجب أن يستدرجوا للعودة مرة أخرى إلى بلادهم، ويتساءل التقرير: هل يبدو ذلك الوصف مألوفًا؟
ل
لم يعد يتحدث أحد في المدارس عن بونابرت، الوضع أسوأ من أن يكون مبغوضًا فحسب، فهو يتم تجاهله، على الرغم من تاريخه المذهل.
يذكر التقرير أن شخصية نابليون بونابرت التي أطلق عليه أعداؤه الإنجليز «أولد بوني» ما تنفك تبهر البريطانيين، وذلك على الرغم من مضي ما يقرب من 200 عام على وفاته في منفاه على جزيرة سانت هيلينا -الجزيرة البريطانية النائية التي تقع في جنوب الأطلنطي- والتي نفي إليها عقب معركة «واترلو». أما في فرنسا، فيبدو أن بونابارت الكورسيكي –نسبة لمسقط رأسه جزيرة كورسيكا في البحر المتوسط- أثار انقسام في الآراء؛ فالبعض يراه عبقريًّا في الحرب والسياسة، والبعض الآخر يراه تاجر حرب مستبدًا.
يذكر التقرير أن المعرض الجديد يضم أعمالًا نادرة بهدف إقناع الفرنسيين بالنظر إلى إمبراطورهم السابق بعينٍ جديدة، وإعادة النظر الى العقدين اللذين اعتبرته أوروبا خلالها «الرجل الأكثر مهابةً ومخافةً واحترامًا». ويضيف أن معرض «نابليون: صور الأسطورة» يقام في شمال مدينة أراس الفرنسية، وتضم مجموعة نابليون ستين لوحة، ومنحوتات وقطع أثاث مستعارة من المجموعة الحصرية الخاصة بقصر فرساي، والتي عادة ما يتم تجاهلها.
يقول «فريدريك لاكاي»، أحد مشرفي قصر فرساي، والذي أشرف على المعرض، أنه يأمل أن يساعد المعرض في إحداث عملية إعادة تأهيل لسمعة بونابرت في فرنسا، وإعادة سيرته إلى كتب التاريخ المدرسية، وأشار إلى مدى تجاهل بونابرت في فرنسا قائلًا: «لم يعد يتحدث أحد في المدارس عن بونابرت، الوضع أسوأ من أن يكون مبغوضًا فحسب، فهو يتم تجاهله، على الرغم من تاريخه المذهل»، وأردف قائلًا: «يراه العديد من الفرنسيين على أنه ممثل لتجارة الحروب، ونظامه استبدادي، ونسوا الأمور الكثيرة التي ورثناها منه، لا سيما إعادة التنظيم الإداري العظيم الذي قام به. في أغلب الأحيان في فرنسا، نواجه صعوبة في التصالح دونما الرجوع إلى الخلفية التاريخية، والوضع مؤسف في حالة نابليون».
يشير التقرير إلى مجموعة من أهم إنجازات نابليون، ليس في فرنسا وحسب؛ بل إنجازات انعكست على القارة الأوروبية كلها. قبل هزيمة نابليون في معركة «واترلو» بحوالي 20 عامًا، لم يغزُ بونابرت الكثير من البلدان الأوروبية فحسب، بل عالج في نفس الوقت المشاكل المزمنة لأبناء بلده، وطُبق «قانون نابليون»، والذي عُرف بالقانون المدني في أنحاء واسعة من العالم، وأدخل التعليم العالي، والضرائب، وشبكات الطرق والصرف الصحي، وأسس بنك فرنسا.
يقول روبرت في كتابه «نابليون العظيم» الذي يتناول سيرته الذاتية، ونشر عام 2014: إن «الأفكار التي تشكل قاعدةً أساسية لعالمنا المعاصر -مثل الجدارة، والمساواة أمام القانون، وحقوق الملكية، والتسامح الديني، والثقافة العلمانية الحديثة، وسلامة الموارد المالية، وما إلى ذلك- دُعمت جميعًا، وتجذَّرت، ونُظِّمت، وتمددت جغرافيًّا بفضل نابليون. فقد أضاف إلى كل ذلك إدارة محلية كفء ورشيدة، وقضى على اللصوصية في المناطق الريفية، وشجَّع العلم والفنون، وألغى النظام الإقطاعي، وأسس أعظم نظام تشريع قانوني منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية».
وفي حديثه لصحيفة الأوبزرفر البريطانية، قال روبرت: «لا تزال الخطابات التي كتبها نابليون البالغ عددها 33 ألف خطاب، باقيةً وتُستغل على نطاقٍ واسع، شاهدةً على قدرة نابليون المدهشة على تقسيم عقله وتفكيره، فعلى سبيل المثال، وضع قواعد إنشاء مدرسة داخلية للفتيات عشية معركة بورودينو، وأسس القواعد المنظمة للمسرح الوطني الفرنسي في باريس؛ بينما كان يعسكر في الكرملين». ويضيف روبرت أن تلك الخطابات أيضًا «تُظهر قدرة نابليون الاستثنائية على الإدارة التفصيلية لإمبراطوريته، فقد كتب إلى حاكم جنوة، يحذره بألا يسمح لعشيقته بالوصول إلى مقصورته الخاصة بالمسرح، كما كتب لعريف في الفوج الثالث عشر من الجيش يحذره من الإفراط في تناول الشراب».
يقول« لاكاي» إن المعرض يضمُّ بعض اللوحات الشهيرة لبونابرت، عُرضت وفق التسلسل الزمني للأحداث -بما في ذلك واحدة من أشهر اللوحات للفنان «جاك لوي ديفيد»، يظهره فيها وهو يمتطي حصانًا أبيضًا-، وإن كثيرًا من هذه اللوحات تظهره يحمل رتبة عسكرية عالية، علاوة على اللوحات التي تكشف أيضًا مدى عبقرية الإمبراطور السابق المبكرة في الاتصالات؛ فيقول لاكاي: «أردنا أن نظهر الإنسان، وليس القائد العسكري فحسب». وأردف قائلًا: «يمكننا أن نرى من خلال هذه الأعمال الفنية، كيف استخدم اللوحات والصور للاتصال في وقت مبكر».
يشير لاكاي إلى أن قليلًا من الناس يربطون بين بونابرت وقصر فرساي، على الرغم من أن نابليون غالبًا ما كان يُعرف بـ«ابن الثورة الفرنسية»، والذي قاتل لمنع عودة سلالة بوربون الملكية إلى الحكم، متجاهلين مجموعة الأعمال حول نابليون الخاصة بالقصر الملكي، والتي جمعها لويس فيليب، الذي عُرف أيضًا بـ«دوق أورليان» -فهو ينحدر من بيت «أورليان» أحد فروع «آل بوربون»- في متحف التاريخ الفرنسي الذي شيده. ويختتم لاكاي كلامه مؤكدًا أن «فرنسا ربما لا تحب نابليون في الوقت الراهن، لكن ذلك لن يستمر إلى الأبد».
ساسة بوست