بقلم الصحفي : هشام عودة
إحسان عباس
(1920 – 2003)
بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة القاهرة عام 1954، شدّ الدكتور إحسان عباس رحاله نحو جامعة الخرطوم التي استمر فيها أستاذاً للأدب العربي حتى عام 1961، وشهد في تلك السنوات عن كثب استقلال السودان عام 1956، في وقت خاض فيه معارك أدبية حامية الوطيس عبر الصحف والمجالس الأدبية مع أنصار كلاسيكية الأدب.
شاعر وناقد وباحث ومدقق ومترجم، هكذا يمكن النظر إلى المهمة التي التصقت بالدكتور إحسان عباس على مدى أكثر من ستين عاماً، ظل فيها بين جدران مكتبته العامرة بامهات الكتب والمراجع باحثاً عن المعرفة التي تنفع الناس.
في قرية “عين غزال”، على مقربة من شاطئ حيفا وقريباً من سفح الكرمل ولد عام 1920، مع بداية الانتداب البريطاني على فلسطين، ليكمل دراسته في مدارس قريته ومدارس مدينتي صفد وحيفا، قبل أن يتوجه عام 1937 لإكمال دراسته في الكلية العربية في القدس، وهي الحصن العلمي الرصين التي تخرج فيها عدد من أبرز نجوم الأدب والثقافة من العرب والفلسطينيين، والفترة الزمنية التي قضاها إحسان عباس طالبا في القدس كانت فترة غنية في حياته، على الصعد السياسية والعلمية والأخلاقية والثقافية، وهي التي رسمت ملامح سيرة هذا الشاب الشغوف بالأدب العربي، الذي رفض بعد ذلك بسنوات بعثة لدراسة الأدب الإنجليزي في بريطانيا، واختار دراسة الأدب العربي في جامعة فؤاد الأول، التي صار اسمها بعد ثورة يوليو 1952 جامعة القاهرة.
إحسان عباس الذي دخل القاهرة قبل نكبة فلسطين، شهد النكبة وهو على مقاعد دراسته الجامعية، كما شهد بعد ذلك بسنوات قيام ثورة يوليو 1952 في مصر بقيادة ضباط جيشها الأحرار، ولم يغادر القاهرة إلا بعد حصوله على درجة الدكتوراه، رغم إحساسه بالخسارة الفادحة على فقدان وطنه، بسبب الاحتلال الذي قام بتدمير قريته ومسقط رأسه، وقطع صلاته مع عائلته التي اضطرت لمغادرة الوطن.
ربما كان كتابه عن الشاعر عبد الوهاب البياتي الصادر عام 1955 هو الذي لفت الانتباه لهذا الشاعر العراقي الرائد، وللشعر الحديث الذي كان عباس متحمساً له ومدافعاً عنه، وتشير السيرة الذاتية لهذا الأديب الموسوعي في ثقافته إلى وجود ما يقرب من تسعين كتاباً، بين مؤلف ومحقـّق ومترجم، تحمل توقيعه، منها خمسة وعشرون كتاباً مؤلفاً، ما تزال تمثل مرجعاً مهما لطالبي العلم والباحثين عن المعرفة في الجامعات ومراكز البحوث والدراسات، أنجزها على مدى ستين عاماً من حياته التي ظلّت حافلة بالعطاء.
فترة حياته البيروتية، كانت الأكثر خصباً وحراكاً في حياته الأدبية، فقد قضى في العاصمة اللبنانية أكثر من عشرين عاماً، بدأت في العام 1961 واستمرت إلى ما بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، كان فيها الدكتور إحسان عباس أستاذاً لامعاً في الجامعة الأميركية، وغزير الإنتاج في مختلف مجالات الأدب، وقد عايش الحرب الأهلية اللبنانية، وتداعيات الغزو الإسرائيلي عام 1982 على لبنان والمنطقة.
ثم كانت عمان المحطة الأخيرة في حياة المثقف الموسوعي التي قضى فيها ما يقرب من عشرين عاماً، حصل خلالها على الجنسية الأردنية تقديراً لدوره المتميّز في إغناء الحركة الثقافية العربية، وظل أبو إياس يمثل قامة عالية في ميدان الأدب العربي الحديث، لا يمكن تجاوزه أو تجاوز آرائه التي ظلّت منحازة للحداثة في مواجهة التقليد.
“غربة الراعي” هو الكتاب الذي حمل بين دفتيه سيرة هذا المبدع، الذي عاش في غربة مزدوجة، رغم حضوره اللافت في مقدمة المشهد الثقافي العربي على مدى أكثر من نصف قرن، إلا أنه ظلّ “راعيا” لمواهب تلامذته المنتشرين في مختلف الأقطار والجامعات، وخلال هذه المسيرة حصل الدكتور عباس على ما يليق به من تكريم، وعدد من الجوائز الأدبية الرفيعة من بينها جائزة الملك فيصل وجائزة سلطان العويس وجائزة شومان ووسام القدس للإبداع وغيرها، فيما ذهب نقاد ومثقفون لتكريم هذا المبدع بطريقة أخرى، إذ صدرت عنه وعن سيرته ومنجزه الأدبي العديد من الكتب والدراسات.
في الحادي والثلاثين من تموز من عام 2003 لفظ الدكتور عباس أنفاسه الأخيرة في عمان، بعد أن تمكن منه المرض، عن ثلاثة وثمانين عاماً، ودفن فيها ، لتخسر الثقافة العربية برحيله واحداً من أبرز أعمدتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وتحمل اسمه جائزة أدبية رفيعة يقدمها ملتقى فلسطين الثقافي.