- في التاسع والعشرين من آب (أغسطس) ١٩٦٠ خضبت بالدماء إحدى المؤامرات الوحشية هدوء الصيف وسكينته. في هذا اليوم اغتيل رئيس الوزراء هزاع المجالي واثنا عشر آخرون من الأردنيين بأسلوب نذل دنيء، عن طريق تفجير جهاز وضع في مكتب رئيس الحكومة.
كان هزاع المجالي رجلاً شجاعاً مولعاً بالحرية واسع الشعبية في سائر أنحاء المملكة، وإنني ما زلت أشعر بحزن عميق عندما أستذكر هذه الأحداث .
يستطيع أي مواطن، جرياً على العادة المتبعة في بلادنا أن يقابل رئيس الوزراء في بعض أيام الأسبوع، ليبسط له مطالبه وشكاواه، كان اليوم الذي اختاره القتلة معتمدا على هذه الخاصية لأنه من البديهي أن يكون هزاع المجالي حاضراً ليستقبل زواره، ولما كان المتآمرون على علم بصلات الود التي تربطني به، فقد وضعوا القنبلة في مكتبه في ليلة ٢٨ -٢٩ آب (أغسطس) وراهنوا على أنه عند إعلان وقوع المؤامرة، سوف أسرع فوراً إلى مكان الحادث، فوضعوا جهاز تفجير آخر بأسلوب شيطاني مخصص لقتلي مع أناس آخرين .
كنت أستريح في مزرعتي في الحمر عندما قرع جرس الهاتف في حوالي الساعة الحادية عشرة، وفي الطرف الآخر من الخط تعرفت على الصوت الحزين لمدير مكتب هزاع المجالي، كانت الجملة التي تلفظ بها وقتئذ موجزة وجافة بحيث أصابني بالجمود:
” يا صاحب الجلالة؛ إن مكتب رئيس الوزراء قد انفجر وهزاع باشا قد قتل ” .
أعدت السماعة دون أن أطرح أية أسئلة وارتديت ملابسي على عجل، تذكرت وأنا أستعد للخروج سرور هزاع المجالي في مساء اليوم السابق عندما أعرب لي عن ارتياحه لرؤية السلام وقد عاد يخيم على الأقطار العربية، ولانتهاء المؤامرات والدسائس.
كنت وراء عجلة القيادة في سيارتي بعد بضع لحظات، وقد وضعت سلاحاً إلى جانبي، واتخذ جنديان مكانيهما في المقعد الخلفي، وانطلقت باتجاه العاصمة .
عندما اقتربت من ضواحي عمان اعترضت طريقي سيارة خرج منها وزير الدفاع، ثم وصلت سيارة أخرى كانت تقل حابس المجالي القائد العام للجيش وابن عم رئيس الوزراء المقتول ، قال لي المجالي: ” يا صاحب الجلالة إننا لن ندعكم تتابعون سيركم مهما كان الثمن، إنكم لن تستطيعوا عمل أي شيء الآن لقد انتهى الأمر، وإنني قانع بأنكم ستتعرضون للخطر في الظروف الحالية إذا ذهبتم إلى عمان” .
سألته عما وقع بالضبط ، فأجاب:
- إن نصف المبنى قد انفجر وقد انسحق جسم هزاع المجالي بسقوط سقف مكتبه عليه.
- هل عثرتم عليه؟
- لم نعثر عليه حتى الآن لوجود الكثير من الأنقاض كما أن الذين يتولون عمليات الإغاثة لم ينتهوا بعد من مهمتهم ولا بد أن يكون الانفجار قد وقع في مكتبه.
رفض الجنرال المجالي ووزير الدفاع مرة أخرى أن أذهب إلى مكان الحادث للاطلاع على الخسائر، ولكنهما اقترحا أن أذهب إلى القصر.
بعد مرور أقل من ساعة على الانفجار الأول، وقع انفجار ثانٍ بنفس العنف، تسبب بمزيد من الخسائر، وقتل مزيداً من الأشخاص الأبرياء، ولا سيما بين من كانوا يتولون الإغاثة، وبين موظفي الرئاسة الذين جاءوا ليساعدوا في إنقاذ الجرحى.
دعوت فوراً أعضاء الوزارة إلى اجتماع غير عادي لتشكيل حكومة في أقرب وقت ، لم يكن من السهل استبدال رجل كهزاع المجالي، وقد وقع اختياري على رئيس ديواني بهجت التلهوني.
وإليكم على وجه التقريب الكلمات التي وجهتها إلى الحكومة الجديدة، قلت لهم: ” أيها السادة إن من الأمور الأساسية تشكيل حكومة في أقرب وقت، لم يكن من السهل استبدال رجل كهزاع، قضوا على هزاع، فأصابونا إصابة بالغة عنيفة في أعماقنا، ولكنهم لم يقضوا على الأردن، فعلينا أن نواصل أداء رسالة هزاع المجالي، رعايةً لمصلحة هذا البلد وخيره، ولسوف نثأر لأنفسنا من هذه الإهانة، ومن جريمة القتل هذه، ولسوف نعمل بمزيد من العزم والتصميم، لإنقاذ بلادنا من الأيدي المجرمة التي تنوي تدميرها، لقد فقدنا رجلاً من كبار رجال الدولة ، ولكن حتى أثناء المحن والشدائد يجد المرء أحياناً بعض العزاء، كالذي يتيح لي الآن ان أخاطبكم، أنتم الذي صان الله حياتكم “.
بقي معظم وزراء هزاع المجالي في مناصبهم لنبرهن للعدو بأنه لم يطرأ أي تغير على السياسة التي ننتهجها، وقد واصل التلهوني نفس المهمة ونفس البرنامج كسلفه الذي كان خير صديق له طوال سنوات.