بقلم : الدكتور محمد عبدالكريم الزيود
يعبر بنا أيلول ويفتح كل نوافذ الذكريات ، ففي ٢٢ أيلول من عام ١٩٩١ كان اليوم الذي ذهبت به إلى جامعة مؤتة ، فطموح كل الآباء الأردنيين أن يدخل أبنائهم درب العسكرية ، ويتخرجوا رجالا يحملون على أكتفاهم أجمل النجمات ..
ذهبت إلى أخواني وكانوا صغارا وقبّلتهم وهم ما زالوا في فراشهم نياما ، كانت أمي تخبّئ دمعها ، ودعتها ويا لها من أصعب المواقف التي لن أنساها ، خرجت من البيت برفقة والدي ، وأنا أسمع بكاء أمي التي طلّت علينا من سطح البيت تلّوح للولد الذي سيلتحق بالعسكرية ، وسيغيب عن البيت .
شدّ من أزري أبي ، وأفاض عليّ من عاطفته رغم ما يظهره من حزم … وإنطلقت إلى معسكر العبدلي حيث ركبنا باصات الجامعة ، وعبرت لأول مرة الطريق الصحراوي نحو الكرك ثم مؤتة ..
دلفنا بوابة الجامعة ، فكان لها هيبة ، وأنت تتصفح وجوه الضباط والمدربين الذين إستقبلونا في ميدانها الواسع المهيب ، كان إستقبالا من نوع آخر ، أمرونا بالركض حول الميدان ، مرة وثانية وثالثة وعاشرة حتى سقط بعضنا مغشيا عليه ، ويبدو أنها الصدمة الأولى لتغادر حياتك المدنية نحو حياة جامعية جديدة ملؤها القسوة والتعب والإنضباط ..
كنت أقف وأنتظر دوري بحلاقة شعر الرأس ، وأناظر شمس اليوم الأول وهي تسقط في المغيب ، ولأول مرة سأنام خارج فراشي .. إستلمنا عهدتنا من الملابس والتجهيزات .. لا أنسى الوكيل عوض الذي تلقفنا على باب السكن وأمرنا بعدم المشي نهائيا إعتبارا من اليوم ..
شرح لنا وزملائي كيف نربط خيوط “البسطار” ، حقيقة من التعب والنهار الطويل وصدمة الحياة الجديدة لم أستوعب ما شرحه ، ربطت فردة والأخرى تركتها … لم أنم تلك الليلة ، رأسي محلوق على الصفر ويحفّ بالمخدة الإسفنج العارية ، وفكري بفردة الحذاء الأخرى وبالوكيل عوض الذي يهددنا بالفصل من الجامعة وصورة أمي تلّوح لي ..
ذكريات الليلة الأولى في الجامعة ، إنهمرت وأنا أتذكر اليوم ٢٢ أيلول وبعد أكثر من ربع قرن ، لكنها البدايات الجميلة التي لا تنسى ، وتحفر في وجه الزمن عندما بدأنا رحلة الحياة .
سلام على دمع الأمهات وعلى تعب العسكر ، وعلى الذين علّمونا أن المستقبل ينجز بالعمل والجد والمثابرة .