بلكي نيوز – د. عبدالله الطوالبة
سؤال يتعالى على ملل التكرار، منذ تسعة وأربعين عاماً. وقد يستغرق أكثر منها، وربما أضعافها، حتى ينقشع ضباب التعمية على الحقيقة. سؤال لا يتوقف بمرور السنين، عن قدح زناد تساؤلات سنحاول في مقال محدود المساحة الحد من تدافعها، خلا تلك التي تستعصي على الكبح.
لعل أول ما يطلق العنان للسؤال ويفرض التساؤل، هو عدم صدور اعلان رسمي حاسم من أي جهة كانت حتى اللحظة، يجيب على سؤال: من قتل وصفي التل؟. هذا يعني، أن التفاصيل لم تُكشف بعد، والملفات المتعلقة بالإغتيال لم تُفتح.
لقد استقر في الأذهان، لأربعة عقود وأكثر، أن القتلة أربعة أشخاص ينتمون إلى ما عُرِفَ حينذاك بمنظمة “أيلول الأسود”، أطلقوا النار على وصفي في بهو فندق الشيراتون فور دخوله. وفي ظروف تلك الآونة، يمكن تفهُّم سهولة اتهام تلك المنظمة بجريمة الاغتيال، وتقبل ذلك على أنه حقيقة نهائية.
وتعزو مصادر فكرة تشكيل منظمة “أيلول الأسود”، التي لم تلبث أن اختفت بعد الاغتيال، إلى القيادي الفلسطيني الراحل صلاح خلف “أبو إياد”. وقيل ان احد المنفذين (العمري) كان يعمل في مكتبه. وقيل أيضاً وما يزال يُقال، أن المنفذ الرئيس، هو المدعو عزت رباح، واسمه الحقيقي نبيل سلامة. وهو ابن عم علي حسن سلامة، المسؤول الأمني الفلسطيني المعروف في لبنان. وقد تردد بخصوص هذا الأخير ، على الصعيد الأمني، كلام معلوم يمكن العودة اليه بسهولة بواسطة مؤشر البحث جوجل. وتقول مصادر أن اثنين من المشاركين في الاغتيال، كانا يعملان في مكتبه.
لكن رواية اغتيال وصفي هذه، اعتراها الكثير من “إنَّ”، بعدما تبين أن الرصاصة القاتلة، طالت وصفي من الخلف وهو يصعد درج الفندق، حيث أُطلقت من بناية كانت قيد الإنشاء مقابل الفندق. إذن، دور أولئك الأربعة كان إحداث ضجيج للتغطية على القاتل الحقيقي “المجهول”. لقد قاموا بدور الكومبارس للتمويه، وبذلك يمكن اعتبارهم شركاء في الجريمة. لكنهم ليسوا القتلة الحقيقيين، حسب تقرير الطب الشرعي في مصر . من هنا، يرى وزير الإعلام الأسبق، عدنان ابو عودة، في فيديو أعده موقع إرم نيوز، بعنوان “لغز عمره نصف قرن… من قتل وصفي التل؟”، وبثه في الثالث من كانون أول 2019، “أن كل ما يُقال حتى الآن عن اغتيال وصفي مبني على الظن”.
الفيديو ذاته، تضمن تسجيلاً لشقيقة وصفي، السيدة وصفية، تقول فيه مباشرة من دون أن تسوق أدلة: “أميركا قتلت وصفي”. لكن ما يسترعي الإنتباه في كلامها بشكل خاص، تأكيدها بأنها شاهدةُ عيانٍ على رسالة شفوية من رئيس مصر آنذاك، أنور السادات، إلى وصفي ينصحه بعدم المجيء إلى القاهرة، وأنه لا يستطيع حمايته. هنا، يفرض نفسه السؤال: من هي “الجهة” التي يعرف السادات أنها تستهدف وصفي وتتربص به؟!
وأي جهة تلك التي ليس بمستطاع الجالس على كرسي الحكم، في أكبر دولة عربية، حماية رئيس وزراء دولة شقيقة منها؟!
أما وأن وصفي قد جاء إلى القاهرة، لحضور اجتماع مجلس الدفاع العربي المشترك، فلماذا لم تُؤمَّن له حماية مصرية، من باب إبراء الذمة على الأقل؟!
وعلى الصعيد الأردني، فلا يعقل أن رسالة السادات الشفوية إلى وصفي لم تصل إلى العناوين المعنية. وعليه، لماذا لم يتم منع وصفي من السفر إلى القاهرة؟! وإلى أي حدٍّ يبدو مقنعاً القول “نبهناه لكنه أصر”، حتى للقائلين به؟! ولماذا لم يتم تأمين رئيس وزراء الأردن ووزير دفاعه بالحماية المناسبة؟!
واذا افترضنا أن مقصود السادات بالجهة التي ليس بمقدوره حماية وصفي منها، تنظيمات تتبع منظمة التحرير الفلسطينية، فعلى الفور يقفز إلى المقدمة تساؤل أقرب إلى أن يكون استنكارياً منه استفهامياً: هل يُعقل ان المؤسسة الأمنية المصرية الضخمة، تُعسرها حماية رئيس وزراء دولة شقيقة من تنظيمات ليس بمقدروها أصلاً ان تُرسل أكثر من بضعة أفراد لإغتياله؟!
في أقصى درجات الموضوعية، فإن افتراضنا هذا قد يكتسب شيئاً من الممكن، اذا أخذنا بنظر الإعتبار ضعف سلطة السادات خلال الثلاث سنوات الأولى بعد رحيل عبدالناصر. فقد أمضى الرجل تلك السنوات، في صراع مع من كانت وسائل الإعلام المصرية تسميهم ب”مراكز القوى”، أو من يُعْرَفون ب”جماعة عبدالناصر”، مثل شعراوي جمعة وعلي صبري وسامي شرف ومحمد فائق، وغيرهم. وقد ظل لهؤلاء نفوذهم، في سنوات حكم السادات الأولى، رغم الضربة التي وجهها لهم هذا الأخير باقالتهم من مناصبهم في أيار 1971. ومن المعروف، أن عبدالناصر لم يَكُنْ يُكِنُّ وُدَّاً لوصفي التل.
في سياق متصل، نرى من الضرورة بمكان الإشارة إلى فيديو آخر بثه موقع عمون الإخباري الأردني، يوم 30 كانون الثاني 2020، المتحدث الوحيد فيه وزير داخلية أردني أسبق، شغل قبل ذلك منصب مدير المخابرات العامة عندما اغتيل وصفي التل.
يقول نذير رشيد بالحرف وبلهجة تخالطها العامية الدارجة: “كان له – أي لوصفي- برنامجه الخاص الذي لا علاقة للدولة به، وعنده أهداف لا تتفق مع أهدافنا…بِدُّو يسوي الأردن أرض حشد ورباط…والبيان الذي ألقاه في اجتماع مجلس الدفاع العربي المشترك في القاهرة لم يُطْلِع عليه أحداً وهو خاص به…”.
مهما قلنا وأوردنا بخصوص اغتيال وصفي التل، فلن نجد محيصاً عن القول بأن الثابت الوحيد حتى اللحظة، ان هناك من كانت له مصلحة بتغييب الرجل عن المشهد السياسي وفي اضمحلال أمره.
وفي مطلق الأحوال، فإن الحديث فيما نحن بصدده، يستلزم نَظَراً بمعطيات عدة تفرض حضورها في السياق:
أولاً: كان وصفي التل رجل دولة، وصاحب قرار. لم يُسجَّل عليه أنه مدَّ يده على المال العام، لأن همَّه لم يكن تحقيق مكاسب خاصة وتسمين حساباته البنكية. وفوق ذينك وذاك، توفر على قدر من الكاريزما والتأييد الشعبي، جعلا منه اكبر من رئيس وزراء بنظر كثيرين، منهم القيادي الفلسطيني نبيل عمرو.
ثانياً: تؤكد وثائق مكتوبة بخط وصفي، وخطاباته المسجلة، أن الرجل كان صاحب مشروع مبني على فكرة جوهرية فحواها: إن تكريس وجود الدولة الأردنية وترسيخه، غير ممكنين من دون مقاومة. فعنده، أن مُحتل فلسطين يهدد الأردن بالقدر ذاته. والضفة الغربية احتُلَّت وهي تحت السيادة الاردنية، ويجب استعادتها بالمقاومة إن لم تُجد ِ السياسة نفعاً.
ثالثاً: حمل وصفي إلى اجتماع القاهرة مشروع جبهة عربية تُطلق حرباً شعبية، يكون للأردن دوره فيها. ومن المعروف أن الكيان الصهيوني، لا قِبَل له بحرب كهذه، ومن الجبهة الأردنية بالذات. ولا مِريَة في أن توجهاً كهذا، يعاكس نهج من يرى مصلحة الأردن في اتجاه مغاير. ولعل هذا ما عناه نذير رشيد بقوله المومأ اليه فوق :” بِدُّو يسوي الأردن أرض حشد ورباط… البيان الذي ألقاه في اجتماع القاهرة لم يُطلع عليه أحداً، وهو خاص به٠٠٠”.
رابعاً: لم يكن وصفي التل ضد النظام السياسي، لكن قوة شخصيته معززة بشعبية كبيرة ومرفودة بمشروع سياسي بالملامح التي ذكرنا، كان من الممكن في سياقات تلك المرحلة، أن تفرض سياسات لا تطيقها مراكز قوى داخلية. وبقدر أكبر، تندرج في إطار المحرمات بالنسبة لقوى إقليمية ودولية.
لقد كُتِب الكثير عن اغتيال وصفي التل، وسيُكتب المزيد. ونحن على قناعة بأن خيوط جريمة اغتياله ستتعرى يوماً. ومن يدري حينها، فقد تكون مفاجأة لبعض الناس، ومذهلة لقسم منهم، وصادمة لآخرين. لكن حتى الآن، ثمة سؤال ما يزال حائراً يبحث عن إجابة: من قتل وصفي التل؟!