بلكي نيوز
في محاولة لبَقرِ بطن الحوت الإسمنتي المُكنّى “شِقة”، وَلَجتُ في محل لبيع النباتات في أحد ضواحي عمان المخملية، عَلّي أبتاع منه بضع زهور، وما إن مَخَرتُ حديقته حتى داهمني عامل في المحل بسؤال “إيه طلبك يا افندم”، وبعدما صدمتني الأسعار، وبلسان متلعثم حاولت تغيير الموضوع، أدرتُ وجهي بحثا عن مخرج يحفظ ماء الوجه، وإذا بي أمام شجرة بدت عليها العراقة المغمّسة بالتعب، وقد فرُغ أغلب ساقها بفعل السنين، وتجاعيدها تشبه وجه جدتي عندما دَنَتْ من المئة حول. شجرة تخدشت، تقطّعت أوصالها وأغصانها، تكاد تقفز من سجن الطوب من حولها، وبكت جذورها على ما تبقى منها في أرضها، تلملم جراحها وقد تم تمزيق أوراقها التي كانت تسترها، كأنها عذراء، حسناء، اغتصب جسدها بلا هوادة، وبدت ” كيتيم الكرام على مائدة اللئام ” . في صوت مرجوج سألتُه عنها. أجابني العامل بطريقة استعراضية: ثمنها 700 دينار وعمرها أكثر من 500 سنة وهي من مناطق عجلون، مكفولة بعد الزراعة لمدة عام لكن النقل على حسابك أو بزيد السعر 100 دينار. في تلك اللحظة، دخلت سيدة مخملية، فأعرض العامل عني، حيث بدى من هيئة سيارتي بأنني لست من الطبقة المستهدفة. تنحنحت قليلا وانسلّيت بصمت.
وفي جلبة الزحام ساعة الظهيرة، وعلى الإشارة الضوئية ، إذ بسراب الشجرة يلاحقني ويتحدث إلي، قائلا: “ألم تعرفني؟ هذا أصلي، أنا هدية الإلهة أثينا، أنا غصن نوح المرقوب، أنا مضرب المثل في التوراة، وعلى جبلي في القُدس صلى يسوع. أنا المباركة في القرآن ويكاد زيتي يضيء ولو لَمْ تمسسه نار. هذا أصلي. أما عن نفسي: زرعوني قُرمية (قطعة مأخوذة من ساق وجذر الشجرة الأم) من قرعود (شجر الزيتون المعمر) قبل خمسة قرون، وعاصرت عائشة الباعونية والسلطان سليمان القانوني، بَزَغَت ورقتي الأولى وقبِلَتها قلعة عجلون، والثانية قبِلَتها مار الياس، وأول ما اشتد عودي أخذ الخوري مصطفى مني غصن لعيد الغطاس، أوراقي كانت بالمرقاب لعودة الحاج نقولا من مكه. من خشبي زَيّنوا المحراب، ومن غُصني صنعوا صليبا عُلق على الباب، كنت مرتجع ماء المعمودية، وارتويت من وضوء الحجة بهية. من زيتي دفع الغوالي في الأيام الخوالي تكاليف التدريس في الأزهر وكلية المصلبة المقدسية. أنا شاهدة على عصر فيه رجالات ما تهاب المنية، وبعُمر المائة دُفن تحتي ثوار فارَة (قرية الهاشمية حاليا) على الجيش العصملي (الجيش العثماني). ولما بلغت من العمر أربعمائة، طلعوا الحبايب بالثورة العربية، ودعموا ثوار الشام على الفرنسيين، وعز الدين القسام على الغاشمين، ومن بذوري صنعت الراهبة مسبحتها الوردية ومسبحة هدية لجارتها الحجة فضِّية. الأرامل وأبناء السبيل من البعارة (جمع المتروك من الثمر) شافوا الخير. ومن قِنَابي أكل الحلال. ومن خشبي وجفتي (مخلفات عصر الزيتون) كان “الدفَى والعفَى” للعيال. وذهب إلى كل الدنيا خشبي تحف ومناظر للجمال. قالوا في زيتي “الزيت عمود البيت”، وتمازحني الصبايا اللقّاطات “زيتك طيّب والْقاطك يشيّب”. أنا سلوى للأولاد و على غصني تأرجحت الحسناوات، وتغَزّلن فيّ، قائلات:
زيتونتي أطيب عروس ما بتتثمن بالفلوس
تحميني من الفقر والبؤس ومن شر اليوم العبوس
ولما كانت المعاصر على حجر البد ملتقى العشاق، وكانت زنود الرجال تحمل بكل يد شوال، كانت البنات بخدود خَمريات مستحيات من المحبوب المتباهي بحمل الشوالات، وباطراف أصابع بالزيت مغمسات، تتلمس الصبايا أطراف خصلات شعر من تحت الشمبر نازلات، وعند المزراب تُغني المزيونات:
يا واردة المزراب تنك الزيت يمليها
ويلّي إلها خليل ربي من فوق يحميها
وبينما كنت أدمدم مرتلاً مع الشجرة ، صدح بوق مُدَوٍ نشاز رافقه صوت رجل هدور يصرخ بكلمات ” اتحرك يا …..!!! ” ، استفقت ساعتها من سكرة الزيت ورائحته الزكية، وأدركت أني لا أزال عند الإشارة الضوئية في وسط الزحمة العَمّانية،انطلقت مسرعا متجنبا وطأة كلمات صاحب البوق التبجحية.
وفي شغف لنجدة اليتيمة، ولكون خبرتي بالزيتون لا تتعدى مرصوع الحبات وصحن الحمص، واللبنة، والمقدوس، المغرقات بالزيت، إضافة الى صحن الزعتر الذي لا يغمس إلا بالزيت، داهمت مكتب خبير الزيتون في المركز الوطني للبحث والإرشاد الزراعي الدكتور سلام أيوب، في سؤال عن إمكانية حماية أشجار الزيتون التاريخية، فجُرح اليتيمة المعروضة في ماخور الأشجار أقتم صدري. فكانت صدمتي كبيرة عندما علمتُ بأن قانون الزراعة يحمي هذه الأشجار، لكن الاستثناءات تُستخدم كمبررات مقيته للنخاسة بأشجارنا. وتجاذبتُ الحديث مع خبير الزيتون حول زيتوننا وزيتنا، فالأردن مُكتَف ذاتيا بزيت الزيتون، ويُصدّر بضع أطنان منه سنويا، ويُصَنّف الثامن عالميا في إنتاج زيت الزيتون، ولدينا في الأردن 20 مليون شجرة ونيف، وتغطي ثلث المساحات المزرعة فيه. وينتشر ما يزيد عن مائة وخمسين معصرة حديثة في مختلف مناطقه. وزيت الزيتون يتربع على هرم الزيوت النباتية الصحية حيث تشكل الأحماض الدهنية غير المشبعة زهاء ثلاثة أرباع أحماضه وهي حمض الأولييك (Oleic Acid)، و اللينوليك (Linoleic Acid)، واللينولينيك (Linolenic Acid). ويعتبر حمض الأولييك الأعلى تركيزاً بينها، ولا يقل اللينوليك أهمية عن غيره، فهذا الحمض يعجز جسم الانسان عن تصنيعه ذاتيا ولا بد من توفيره في الغذاء، فهو مساند لتخليص الجسم من الكولسترول الضار (LDL) في الدم. ويمتاز صنف الزيتون النبالي وأصله الزيتون الموسوم “رومي” في كناية عن عراقته وقدمه، بصفات مذاقية وحسية مرغوبة في شتى أصقاع الدنيا. فقد وجد خبراء التذوق والتحليل الكيميائي أن هنالك أكثر من سبعين مرَكَّباً مسؤولاً عن نكهة زيت الزيتون. وللرائحة الثمرية الزكية لزيت الزيتون الأردني والمصحوب بمذاق حلو مع شيء مِنَ الحدة والمرارة التي لا تكاد تذكر ولكنها تضفي عليه رونقاً خاصاً به. وفي بلادنا تنتشر أصناف محلية عدة منها النبالي البلدي، والرصيعي، والصوري، والشامي، ونصوحي جبع، إلا أن أكثرها تأقلما مع البيئة المحلية هي النبالي البلدي والرصيعي، وتجود بالزيت ومذاقها ممتاز للتخليل، أما لمن يهوى تخليل الزيتون الأسود فعليه بصنف نصوحي جبع.
ونسبة حموضة الزيت مؤشر فيصل في تحديد جودة الزيت، وهي كاشف لمستوى رعاية الشجرة من إزهارها وحتى نضوج ثمارها، بل وحتى قطافها ووصولها لجرن المعصرة وحتى نهاية الحكاية بوصولها للمستهلك. ويتحلل زيت الزيتون في الثمار بفعل إنزيم اللايبيز وغيره من الانزيمات، مما يكسر الجليسريدات الثلاثة لتنتج جليسرول وأحماض دهنية حرة ترفع حموضة الزيت. والفلاح الفطين يعرف أن الثمار المصابة بذبابة الزيتون و زيتون الجوال (الزيتون الساقط على الأرض منذ فترة) والتخزين في أكياس بلاستيكية وتكديس الأكياس فوق بعضها وطول المدة بين قطاف الثمار وعصرها، كلها أمور يجب تفاديها للحصول على زيت عال الجودة. ويعبر عن هذه الجودة من الأجود إلى الأقل جودة لتتدرج من الزيت البكر الممتاز حيث يكون حمض الأولييك الحر أقل من (0.8 %)، ثم الزيت البكر حيث لا يزيد حمض الأولييك عن ( 2 %)، يليه الزيت البكر العادي حيث الأولييك (3.3%)، أما إن ارتفع الحمض عن ذلك فيُسمّى زيت زيتون بكر غير صالح للاستهلاك، إضافة إلى الزيت الناتج عن تفل الزيتون، وهذين الأخيرين يستعملان في صناعة الصابون. وللحد من حدوث التعفنات في ثمار الزيتون وارتفاع حموضته، تعتبر الصناديق هي الأمثل في عملية النقل من المزرعة إلى المعصرة. ويعصر زيتون الجوال والزيتون المصاب مفصولين عن زيتون الاستهلاك ليتم استخدام زيتهما في صناعة الصابون.
وبشكل متواز مع الأحماض غير المشبعة والمواد المسؤولة عن طعم الزيت، تعتبر الفيتامينات (A, D, E, K) ومركبات البولي فينول، والكلوروفيل، والكاروتين المضادة للأكسدة مركبات هامة في زيت الزيتون. ومن نوافل القول أن زيت الزيتون لا يزعج المعدة كحال أغلب الزيوت الأخرى، بل وله تأثير إيجابي على المعدة، فتناول ملعقة واحدة منه صباحا يحسن حركة المرارة وإفرازاتها ويعالج القرحة المَعدية، ويُسَرع حركة الأمعاء الدقيقة، ويخلص الجسم من الإمساك المزمن. ويقترب تركيز حمض اللينولييك في زيت الزيتون من مستواه في حليب الأم، بينما لا يداني تركيزه في حليب الأبقار مثلا ربع تركيزه في زيت الزيتون. كما أن فيتامين (K) يجعله هام لنمو الخلايا الدماغية و العظام، والمركبات المضادة للأكسدة فيه تمنع تفاعلات الجذور الحرة التي تحطم الخلايا والأنسجة. ويحفز زيت الزيتون عمل هرمون الأنسولين، ويقلل من الحاجة إلى أدوية ضغط الدم ويقي الجسم من السرطان.
عدتُ إلى بطن الحوت الإسمنتي محزوناً، حامِلا هّمَ الجريحة، وإذا بها تتراءى أمامي مرة اخرى قائلة: عندما كنت بين أقراني في أرضي، زارني ذات مرة خبير أجنبي، وبعد مئات الصور، قال لمرافقيه: لو كانت هذه الشجرة في بلادي لتم تحويل هذا البستان بأشجار زيتونه العريقة إلى متحف ومحمية طبيعية ومحطة للسياحة البيئية، يؤمه طالبي المنتجات الريفية. فزيت هذه الديار يكاد يضيء ولو لَمْ تمسسه نار.
drnizarh @gmail.com