هشام عودة
من ماعين بمحافظة مأدبا والتي أطلق منها صرخته الأولى نهاية عام 1932 الى دمشق التي اغمض فيها اغماضته الاخيرة نهاية عام 1989 ، عاش غالب هلسا سبعة وخمسين عاما بالتمام والكمال ، فقد توفي في يوم ميلاده وأطفأ فيه شمعته الأخيرة.
سيرة الروائي الاردني الأشهر “غالب هلسا” لا تشبهها في صعودها وهبوطها سيرة أي مثقف أردني آخر ، فهناك الكثير من المحطات التي ميزت سيرة هذا المبدع في حياته الضاجة بالكتابة والترحال والاحداث.
فقد شكل يوم التاسع عشر من كانون الاول يوما استثنائيا في حياة الروائي الذي قضى ثلثي سنوات حياته تقريبا خارج وطنه ، وشكل هذا اليوم نقطة البداية والنهاية لسبعة وخمسين عاما ، ابدع فيها عددا من الاعمال الادبية الهامة التي كرسته اديبا عربيا بمواصفات أردنية ، لعل أبرزها سلطانة ، زنوج وبدو وفلاحون ، وديع والقديسة ميلادة ، وثلاثة وجوه لبغداد ، الخماسين ، الضحك ، السؤال وغيرها ، وهي اعمال ادبية حجزت مساحة مهمة من صفحاتها للتعريف بسيرة الكاتب “البطل” الذي ظل اسمه غالب هلسا.
الروائي الذي تنقل في العديد من العواصم العربية ، وعاش غريبا عن وطنه ، عاد اليه “جثمانا” في عام انطلاق رياح “الديمقراطية” وقد تسللت “اعماله الادبية” الى حضن الوطن رغم علامات الاستفهام الموجودة في اوراق الارشيف الذي لا يعترف بسطوة الانترنت ، قبل ان تتم طباعة اعماله الكاملة في عمان.
شكلت نكبة فلسطين عام 1948 علامة تحول كبرى في حياة الشاب غالب هلسا ، ففتح له اصدقاؤه الشيوعيون باب الحزب ، ليصبح واحدا منهم عام 1951 بعد ان تعرفوا اليه شابا واعيا ومنفتحا وكاتبا ، قادما من مدرسة المطران.
في عمان ، نهاية الاربعينيات وبداية الخمسينيات ، عاش غالب هلسا في دائرة الحراك السياسي والحزبي والثقافي ، قبل ان يتوجه للدراسة في الجامعة الاميركية في بيروت ، لكنه لم يستطب الاقامة فيها ، فعاد إلى عمان ليشد رحاله باتجاه بغداد التي غادرها الى القاهرة في السنوات الاولى لثورة يوليو ، وهناك التحق بالجامعة الاميركية ودرس الصحافة ، وعمل كاتبا ومترجما.
في سنوات حياته “المصرية” التي استمرت ثلاثة وعشرين عاما متواصلة ، عاش “غالب هلسا” الانعطافات التاريخية التي عصفت بالمنطقة ، من تأميم قناة السويس والحرب التي حملت أسمها ، إلى التحولات السياسية والاقتصادية ، وصولا الى هزيمة حزيران وحرب تشرين – اكتوبر ، وزيارة الرئيس السادات للقدس.
القاهرة التي احتضنت غالب هلسا روائيا وسياسيا ما يقرب من ربع قرن ، ابعدته عن حضنها بسبب موقفه المناهض لتداعيات “الصلح” مع اسرائيل ، فوجد نفسه في بغداد التي قضى فيها ثلاث سنوات ، خرج منها بثلاثة وجوه لها.
بغداد البعثية التي اصطدمت مع الشيوعيين العراقيين في تلك المرحلة ، ضاقت رغم اتساعها في وجه غالب هلسا الذي غادرها الى بيروت ، وصار واحدا من مثقفيها ، ليتحول الى “مقاتل” بقلمه وبندقيته في مواجهة الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 ، ويجد نفسه ، مع رفاق الكلمة والسلاح ، على ظهر السفينة التي اقلتهم الى عدن.
السنوات السبع الاخيرة من حياته قضاها في دمشق ، وفيها كتب وترجم كثيرا ، وكأنه يسابق الزمن لانتزاع مزيد من كتاباته الابداعية التي قدمته للقراء وقدمت معه شيئا من سيرته الذاتية.
ما يقرب من خمسة وثلاثين عاما عاشها الروائي الاردني الاشهر خارج وطنه ، لكن الاردن ، بمجتمعه واحداثه وتاريخه وما واجهه من منعطفات مهمة ، ظل حاضرا في يوميات غالب هلسا واعماله الادبية.
كرمته وزارة الثقافة بعد ثمانية عشر عاما من رحيله ، فمنحته جائزة الدولة التقديرية ، ما اعتبره مثقفون اعادة اعتبار لهذا الروائي المبدع ، الذي كرمته رابطة الكتاب بعد رحيله ايضا باطلاق اسمه على احدى جوائزها الثقافية.
الروائي الذي ظل متمسكا بحريته السياسية رغم قسوة الحياة في المنفى ، ظل متمسكا كذلك بحريته الاجتماعية وقضى حياته عازبا ملتصقا بمنجزه الابداعي الذي قدم لنا اديبا اردنيا تخطى بشهرته الحدود ، وصار حاضرا في المشهد الثقافي العربي برمته.