نقابة المعلمين الأردنيين ليست بلا رصيد تاريخي، يُضاف إلى حق أعضائها المشروع بوجودها. لكن المتتبع لمسيرة هذه النقابة بالذات، في الأمس واليوم، لا بد أن تستوقفه معطيات عدة لها انعكاساتها في رفع منسوب حساسية الحكومات تجاهها.
أول هذه المعطيات، تواقُت الموافقات على إنشاء نقابة للمعلمين مع ظروف غير مريحة للحكومات، بل وضاغطة على أعصابها، مما يحمل على الإعتقاد بأن النقابة تُفرض على الجهات الرسمية رغم أنفها. على هذا المعطى، تشكل ثانٍ ما يزال يطبع العلاقة بين الحكومات والنقابة، لجهة استعصائها على التفاهمات والتسويات، وجنوحها إلى الصِّدامية كي لا نقول الإنفجارية.
أما التبدي الأجلى لذلك، فيتمظهر غالباً بالريبة وبالشك والود المفقود دائماً. ليس هذا وحسب، فالعلاقة بين الحكومات والنقابة كانت وما تزال ثَمِلة بالنهايات غير السارة للنقابة، كالإعتقال والإغلاق والحل.
نشأت نقابة المعلمين أول مرة عام 1952، بضغط من المعلمين مسنودين بتأييد الأحزاب اليسارية والقومية ذات الامتداد الجماهيري آنذاك. وقد كان من سمات تلك المرحلة التاريخية كما هو معروف، انتعاش حركات التحرر الوطني ضد الغرب الاستعماري، على وقع انقلابات عسكرية في عدد من الدول العربية بعد نكبة 1948، تحولت فيما بعد إلى ثورات.
كان أول مطالب النقابة، زيادة رواتب المعلمين(ما أشبه اليوم بالأمس). رفضت الحكومة في تلك الآونة هذا الطلب، فردت النقابة بالإضراب عن العمل مما أرغم الحكومة على الاستجابة، ولكن برفع الرواتب بنسبة 50%. ظلت العلاقة بين الحكومات والنقابة على صفيح ساخن، حتى حانت الفرصة لحل النقابة على خلفية أحداث 1956، وهو ما حصل بالفعل. وقد شمل قرار الحل العديد من النقابات المهنية، وقبلها الأحزاب اليسارية والقومية. ولعل مما له دلالة، أن قرار حل النقابات لم يدم طويلاً، حيث تم التراجع عنه بالنسبة للنقابات المشمولة به كلها بإستثناء نقابة المعلمين. وكان قد سبق حل النقابة بعامين إغلاق مقرها، نتيجة دعوتها إلى إضراب عام في 12/10/1954. ورافق ذلك، الزج بكثيرين من أعضائها اليساريين والقوميين في سجني الجفر والمحطة.
طُوِيَ ملف نقابة المعلمين، وتشكل انطباع تكرس خلال عقود بأن إعادة انشائها خط أحمر. لكن هذا “التابو” لم يلبث أن تبخر يوم 25 أيلول 2011، حيث تمت الموافقة على إنشاء النقابة بقانون. فقد أصبح الممنوع ممكناً وبات المحظور متاحاً، بعد اشتعال شرارة أحداث ما يُعرف بالربيع العربي وارتداداتها في الأردن. مذَّاك، وحتى صدور حكم بحل الهيئة الإدارية للنقابة وحبس أعضائها في اليوم الخاتم للعام الفارط، ظلت العلاقة بين الحكومات المتعاقبة والنقابة أقرب ما تكون إلى المكاسرة، وكأنها بين طرفين لا يتسع لهما الأردن معاً.
ونحن نعتقد أن الحكومات، في الماضي كما في الحاضر، تتحمل المسؤولية كاملة عن طبع العلاقة بين الجانبين بهذا القدر من الخصومة والحساسية ذات الفولتية العالية. لماذا، وما الدليل على ما نقول؟!
لنبدأ بما لا يحتمل اختلافاً بين اثنين. السلطة بيد الحكومات، والدولة للجميع وليس للحكومات وحدها. ومن أولى أولويات الحكومة أن تعمل على خدمة مصالح الدولة وضمان حقوق مواطنيها بالعيش الكريم وبحرية التعبير عن الرأي، والا فقدت مبررات وجودها.
والذي نراه، أن المعلمين أحوج ما يكونون إلى نقابة تطالب بحقوق منتسبيها كأي نقابة في الدنيا، وتعمل بدأب على الإرتقاء بمهنتهم، وأي مهنة؟! إنها مهنة التعليم، أساس النهوض والتقدم، كما تعلمنا تجارب الأمم المتقدمة. فإذا تردت أحوال التعليم وساءت ظروفه، فإن الإنحدار سوف يكون شاملاً للواقع بأبعاده التنموية والإجتماعية والثقافية.
المستوى المعيشي لمعلمينا متدنٍ، في ظل ظروف اقتصادية صعبة يمر بها الأردن. هل بمقدور الحكومات إنكار ذلك؟! ومكاسبهم الوظيفية والمهنية، لا يكاد يتبلغ بها أقل محظوظ ممن يُسمونهم “أبناء الذوات”، أو أبناء الديناصورات وهي التسمية الأصح برأينا.
فكيف سيعطي المعلم وهو في وضع أقل من مستور، كي لا أقول شيئاً آخر، ويشعر بدونية مهنته مقارنة بغيرها من المهن؟! وقد بلغ سوء أوضاع المعلمين درجة التعالي عليهم والمس بكرامتهم. فلم يبرح ذاكرتنا بعد رد وزير تربية أسبق(انتبهوا… وزير تربية وتعليم) على مطالب المعلمين بإحياء نقابتهم قبل عقد من الزمان، بدعوته لهم إلى “حلاقة ذقونهم وتنظيف ملابسهم قبل المطالبة بنقابة”!!!
وعلى الرغم من هذا كله، ترفض الحكومات الإصغاء للمنطق، وتتأبى على التعامل مع الحق بصفته حقَّاً. فكيف عندما يقف وراء هذا الحق نقابة تضم الآلاف، وتحظى مطالبها المُحِقَّة بتأييد شعبي؟! هنا، وهنا بالذات، يكمن سر الحساسية المُفرطة لدى الحكومات تجاه نقابة المعلمين.
ويلفت النظر، أن الحكومات فشلت في تقديم رواية متماسكة يتقبلها العقل لتبرير مواقفها المتشنجة تجاه المعلمين ونقابتهم. فليس في جعبتها ما تشهره ضد النقابة، سوى ربطها ب”الأخوان”.
وهذه حُجة خائبة، ناهيك ببطلانها من رأسها وحتى أخمص قدميها. فالذين شغلوا موقع نقيب المعلمين، وآخرهم المرحوم أحمد الحجايا، ليسوا أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، والحكومات تعرف ذلك. كما أن “الأخوان”، بغض النظر عن رأي كاتب هذه السطور بفكرهم ونهجهم، جزء من نسيجنا المجتمعي. ومن طبائع الأمور، أن يكون لهم تواجدهم في هذه النقابة وفي غيرها من النقابات، بهذا القدر أو ذاك. وتعرف الحكومات الأردنية كلها، منذ اعلان تأسيس فرع “الجماعة” في الأردن عام 1945 وحتى يوم الناس هذا، أن التصادم مع النظام وحكوماته غير وارد في حسابات “الأخوان”، ولم يكن في يوم من الأيام جزءاً من سياساتهم وتوجهاتهم، بل العكس تماماً هو الصحيح. ليس من شأن هذا المقال ايراد أدلة بهذا الخصوص، ولكن لا بأس من التذكير بأن “الأخوان” باركوا إغلاق نقابة المعلمين عام 1954، وأيدوا سجن رموزها ونشطائها من اليساريين والقوميين. وكوفيء “الأخوان” في المقابل، بإطلاق يدهم في وزارة التربية والتعليم. وعليه، فإن إشهار “الأخونة” ضد النقابة يدين الحكومات نفسها ويعري سياساتها.
قضية نقابة المعلمين، مطلبية بشكل رئيس، تتمحور حول تحسين الظروف المعيشية لأعضائها، بغض النظر عمن يقودها، وبمعزل عن الاتجاهات الفكرية والقناعات الأيديولوجية داخلها.
أخيراً، نصيحة مجانية للحكومات. الحق أبلج والباطل لجلج. والأوبة إلى الحق، دليل رُشدٍ، وأفضل دائماً من التمادي بالباطل.
الحق إلى جانب نقابة المعلمين، واللجوء إلى القوة في مواجهة الحق دليل ضعف، وسلوك متعجرف مآله الندم ومصيره الخسران لا محالة.