كتب قيس قدري :
حلب مدينة ناصرية الهوى وليس أدل على ذلك أكثر من يوم وصول الرئيس جمال عبد الناصر في أول زيارة لحلب. يومها خرجت المدينة عن بكرة أبيها لاستقباله. مشهد عصي على النسيان؛ الذبائح كانت تنحر أمام موكبه كل بضعة أمتار ابتداء من مطار النيرب حتى مقر إقامته الذي أحيط ببحر من البشر ممن باتوا في عين المكان قبل وصول الرئيس بثلاثة أيام.
صبيحة يوم 28 سبتمبر 1961 قامت في دمشق حركة انفصالية بقيادة كل من العقيد عبد الكريم النحلاوي ( كان وقتها يشغل منصب مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر) وحيدر الكزبري وموفق عصاصة وأدت الى انفصام عرى الوحدة بين مصر وسوريا. وعلى عجل تم تنصيب الدكتور ناظم القدسي رئيسا للبلاد وهو حلبي المولد وزعيم حزب الشعب المنحل الذي عرف عنه موالاته لحلف بغداد الذي كان يضم كلا من تركيا والعراق وباكستان والمبارك أمريكيا.
في هذه الفترة انتقلنا للسكن في واحدة من أكبر العمارات السكنية في حلب (الأوقاف) التي كان لها أهمية خاصة من حيث موقعها الاستراتيجي؛ فهي تطل على أكبر ساحات حلب (ساحة سعد الله الجابري) وعلى يمينها مركز البريد الرئيسي ومن ورائه مبنى الإذاعة. وفي الدور الأرضي مركز المخابرات العامة وفي الخلف يوجد مقر قيادة المنطقة الشمالية.
فور إعلان الانفصال في دمشق عمت المظاهرات كل أرجاء المدينة التي كانت تطالب بعودة الوحدة الى ما كانت عليه مع مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر.
وقامت على الفور حركة تمرد ضد الانفصال بقيادة العقيد جاسم علوان ( في رصيده ٣ محاولات انقلابية فاشلة) والعقيد محمد عمران اللذان أعلنا عبر اذاعة حلب أن مدينة حلب لا تعترف بقيادة الانفصال وأن حلب ما تزال جزء من القطر الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة .
حلب كانت تنتظر انضمام بقية محافظات سوريا للانضمام الى حركة التمرد. الخديعة جاءت من قائد المنطقة الوسطى مصطفى طلاس في حمص الذي ماطل وسوف كثيرا وتواطأ مع قيادة الانفصال في دمشق للسماح بوصول اللواء المدرع بقيادة حمد عبيد الى مشارف حلب والتمركز عند منطقة الكلية الأمريكية المطلة على كل أحياء المدينة من عل وجاهزة لتدميرها في حال استمرار التمرد.
طيران الانفصال قام بقصف مقر الاذاعة التي كانت تصدر بيانات قيادة التمرد وتذيع أغاني الوحدة.
في ذاك الوقت وصل اللواء لؤي الأتاسي قائد المنطقة الجنوبية وهو شخصية محبوبة داخل القوات المسلحة (عين رئيسا للبلاد فور نجاح انقلاب الثامن من آذار عام 1963 لكنه استقال لاحقا وبعد ذلك أحكم البعثيون قبضتهم على البلاد).
الأتاسي تمكن من إقناع قادة التمرد على التراجع لتجنيب المدينة خطر التدمير من قبل القوات الانفصالية المرابطة على تخوم مدخل المدينة.
رغم انتهاء التمرد العسكري الا أن حلب ظلت تعيش حالات كر وفر مع قوى الانفصال وخاصة في منطقة حي الكلاسة الشعبي الذي شهد أكبر المواجهات مع الأجهزة الأمنية .
وسط الحي يوجد مسجد يحمل اسم الرئيس جمال عبد الناصر. الأجهزة الأمنية كانت تغير اسمه في النهار وفي الليل كان الناصريون يعيدونه الى اسمه الأصلي. حتى أن الرئيس جمال عبد الناصر وصف الحي في إحدى خطبه بالقول: ” دي مش كلاسة؛ دي وردة في كاسة”.
أثناء التمرد العسكري تحول بيتنا الى ما يشبه المقصف الذي يزود أطقم الدبابات المرابطة أثناء حركة التمرد تحت المنزل بالشاي والقهوة والسندويتشات وهو ما تكرر عند وقوع انقلاب الثامن من آذار عام 1963.
هكذا كان حال مدينة حلب في تلك الحقبة.