منذ تخرج من كلية الهندسية في جامعة بغداد ، قبل نصف قرن تقريبا ، لم يكن عبدالهادي المجالي قد حدد مساره بعد.
الكركي الذي ولد عام 1934 ، اكتشف ان الطموح الذي يعيش داخله ، اكبر من ان تعبر عنه شهادة الهندسة التي يحملها ، فانتسب للجيش العربي ليصبح فيما بعد رئيسا لهيئة اركانه المشتركة قبل ان يتولى قيادة جهاز الأمن العام.
رغم انه عمل سفيرا للاردن في الولايات المتحدة ، ورغم توليه مسؤولية اكثر من حقيبة وزارية ، الا ان لقب “الباشا” ظل مرافقا له ، متغلبا على كل صفاته والقابه الدبلوماسية والسياسية والاكاديمية ، وان تسرب الى حياته العامة بين فترة واخرى لقب “معالي”.
عبدالهادي المجالي القادم للعمل السياسي من صفوف المؤسسة الامنية والعسكرية ، ظل قادرا على الامساك بطرفي المعادلة ، حيث اعتقد البعض انهما طرفان لا يلتقيان ، الا عند المنعطفات المصيرية الخطيرة.
في منتصف العقد الثامن من عمره ، وقبل وفاته بأيام كان قادرا على ادارة خيوط اللعبة السياسية الى درجة ان خصومه ومؤيديه ، على حد سواء ، باتوا مقتنعين بان الرجل يمثل ركيزة اساسية من ركائز صنع القرار السياسي في الاردن.
بعد سنوات طويلة من العمل في الوظيفة الرسمية بشقيها العسكري والمدني ، قرر معالي المهندس الذي ما زال يحب لقب “الباشا” هجر الوظيفة وحجز لنفسه مقعدا في مجلس النواب ، ظل يشغله منذ المجلس الثاني عشر عام ,1993
يملك عبدالهادي المجالي قدرة لافتة للنظر في نسج تحالفات سياسية وانتخابية ، تربك منافسيه ، وتحطم التابوهات المغلقة التي كانت سائدة تحت القبة ، او في الطريق اليها ، قبل ان يقرر الجلوس الدائم على كرسي رئيس مجلس النواب.
لا ثوابت في السياسة ولا ثوابت في التحالفات ، هكذا فهم الباشا المعادلة ، وتعامل معها تحت القبة ، وصار على الحكومة ، اي حكومة ، ان تقرأ جيدا ملامح الاجندة السياسية ، لمعالي الباشا قبل ان تتقدم ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مرحلة ظل الرجل فيها قادرا على تحريك رياح المجلس في الاتجاه الذي يعتقد انه يخدم مصالحه.
منذ عدة سنوات لم يغادر الباشا منصة الرئاسة ، في الشق الأكثر حراكا في بيت السلطة التشريعية ، الى درجة الاعتقاد ان زملاءه باتوا مقتنعين بعدم خوض المنافسة في معركة معروفة النتائج مسبقا.
الذين يعرفون معالي الباشا عن قرب يؤكدون ان تكشيرته لا تلازم ملامح وجهه دائما ، وربما يكون الرجل قد اكتسبها من طبيعة وظائفه السابقة ، التي كانت تتطلب شيئا من الجدية والصرامة ، لكن الباشا يضحك كثيرا في مجالسه الخاصة ، ويضحك اكثر وهو يرسم مع المقربين منه ملامح المشاهد الساخنة التي يصرون على نجاحها.
بعد عودة الحياة الحزبية مطلع التسعينات من القرن الماضي ، ذهب عبدالهادي المجالي مثل غيره من النخب وقادة الصالونات السياسية ، الى تأسيس حزب اراد من خلاله تقديم رؤاه وبرامجه السياسية ، فولد حزب العهد الذي صارت له جريدته ايضا ، وبعد ان اكتشف الباشا ان حجم طموحه السياسي اكبر من ذلك بكثير ، تبنى اشهار مبادرة نجحت في دمج تسعة احزاب وسطية ، ليلد من رحمها الحزب الوطني الدستوري حيث شغل الباشا منصب الرئيس في هيكله التنظيمي ، وصار مرجعية سياسية واخلاقية لاعضاء الحزب ، الذي اراد له مؤسسوه ان يفرد جناحيه على مساحة الوطن كله ، غير ان الحزب تعرض لانشقاقات عديدة وغادرته شخصيات بارزة لم يستطع الرئيس الاحتفاظ بها داخل بيت الحزب
ويؤكد المقربون منه ان الباشا يفكر في اعادة التجربة من جديد عبر تيار سياسي اصلاحي يسعى من خلاله الى حصد اغلبية مقاعد البرلمان ، لتشكيل حكومة حزبية على طريق تكريس التداول السلمي للسلطة في الاردن.
يملك شبكة من العلاقات الاقليمية والدولية الواسعة التي كرسته وجها اردنيا معروفا ، وله من الخصوم مثلما يملك من المؤيدين ، لكن قناعة الطرفين تؤكد ان الرجل قادر على اشعال النيران واطفائها وقت يشاء.
احيانا يقود عبدالهادي المجالي سفينة المعارضة داخل المياه الاقليمية للحكومة وفي احيان اخرى يتوحد المساران حين تتطابق الرؤى والمصالح والاجتهادات .
رحم الله فقيد الوطن والامة الكبير .
بقلم الكاتب الصحفي : هشام عودة