بقلم : هشام عودة
خالف “كار” أهله الذين اشتهروا بصياغة الذهب، ليتفرد هو بصياغة الكلمة التي أسهمت بدورها بصياغة وعي جيل أنتجته النكبات المتتالية.
في يافا، عروس المتوسط، وعلى مقربة من بياراتها العابقة برائحة البرتقال، ولد إبراهيم سكجها عام 1926، وتفتح وعيه مع تصاعد وتيرة المؤامرة الصهيونية البريطانية على فلسطين، وفي عام 1940 وجد ذلك الفتى نفسه في مواجهة ظروف استثنائية، على صعيد الوطن والعائلة، فقد توفي والده ولمّا يبلغ الرابعة عشرة من عمره، ليجد نفسه مسؤولا ًعن إعالة أسرته، في وقت بدأت فيه الأطماع الصهيونية في فلسطين تتضح بشكل جلي، وساعدته حياته في مدينة عامرة بكل شيء، على إيجاد عمل يسد به بعض الرمق، فيما واصل دراسته الثانوية التجارية في مدرسة العامرية بيافا.
قبل أن يكتشف الصحفي العتيق داود العيسى شخصية ” العدناني الصغير” الذي كتب العديد من المقالات في جريدة فلسطين، ربما تأثرا ًبشخصية أستاذه الشاعر الكبير محمد العدناني، كان إبراهيم سكجها يعمل في بلدية يافا، عمل بعدها موظفا إداريا في جريدة فلسطين، لينقله عنوان احد الأخبار ذات يوم من عام 1946 إلى سكرتارية التحرير، ويبدأ منذ تلك اللحظة رحلته في ميدان الصحافة التي استمرت لخمسة وأربعين عاما ًمتواصلة.
الفترة التي انتمى فيها أبو باسم للصحافة كانت فترة استثنائية في حياته الشخصية، وفي حياة الوطن والأمة، فالرجل وزملاؤه لم يكونوا صحفيين عاديين، بل تحولوا إلى محاربين دافعوا بشراسة عن عروبة فلسطين، وتركت هذه المرحلة بصماتها على مسيرة رجل صار أحد أعمدة الصحافة في فلسطين والأردن، وامتدت شبكة علاقاته المهنية بعيدا ًخارج حدود الوطن.
يمكن تقدير حجم الغضب الذي اشتعل في صدر ذلك الشاب المندفع وهو يغادر مسقط رأسه عام 1948 متوجها إلى غزة ومنها إلى القاهرة، حيث تعرف إلى ابرز صحفيي مصر في تلك المرحلة وعمل في صحافتها، مثلما عمل في جريدة الدفاع قبل أن يعود إلى عمان عام 1950.
مرة واحدة، وجد سكجها نفسه سكرتيرا ًلتحرير صحيفتين عمانيتين، هما “النسر” لصاحبها صبحي القطب، و”الجزيرة” لصاحبها تيسير ظبيان، فحول الجزيرة إلى مسائية ليتسنى له إدارة الصحيفتين معا، بما تقتضيه المهنية، ليذهب في نهاية عام 1950 لإصدار أسبوعية “آخر خبر” التي ترأس تحريرها، إلا أن حلمه لم يستمر طويلا بعد قرار العقلية المتنفذة بإغلاق الجريدة بعد صدور عددها الثالث واعتقال رئيس تحريرها، ليغادر إلى القدس ويعمل سكرتيرا لتحرير جريدة فلسطين التي استمر فيها حتى تم دمجها مع المنار وصدور جريدة الدستور، في ربيع عام 1967.
ربما كانت الستة عشر عاما ًالتي قضاها أبو باسم في القدس، هي السنوات الأكثر استقرارا ًفي حياته المهنية، ومن المؤكد أن علاقته القوية بصديقه عبد الله الريماوي الذي ترأس تحرير ” فلسطين” فترة من الزمن، وصديقيه كمال ناصر وعبد الله نعواس، كانت احد الأسباب التي دفعت به للانخراط في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو ما طبع مواقفه السياسية لاحقا ًالتي ظلت منحازة لقضايا الأمة، يعبر عنها العروبي المنتمي الذي ظل اسمه إبراهيم سكجها.
في تلك الجمعة الأولى من حزيران 1967، وقبل يومين فقط على تلك الكارثة القومية، كان أبو باسم ينتقل بعائلته للإقامة في عمان، حيث استمر في عمله مديرا ًلتحرير الدستور منذ صدورها وحتى آيار 1975، ليذهب بعد تسعة أشهر لإصدار جريدة الشعب التي ترأس تحريرها وقدم من خلالها نموذجا ًمختلفا ًللصحافة المستقلة، لكن ذلك لم يرق لبعض المسؤولين الذين ضاقوا ذرعا ًبالجريدة وسياستها، فذهبوا إلى سحب ترخيصها بعد عام ونصف العام على صدورها، ليذهب أبو باسم في عام 1978 مع مجموعة من زملائه الذين يثق بقدراتهم إلى الإمارات العربية المتحدة ويؤسس فيها جريدة البيان التي ترأس تحريرها لعامين، يعود بعدها إلى عمان، ويتسلم في سنوات متعاقبة رئاسة تحرير كل من الرأي وصوت الشعب والدستور حتى عام 1988، ويغادر موقعه في الصحف الثلاث لأسباب ظل حتى يومه الأخير يعتقد أنها وجيهة، وتشير سيرته الذاتية إلى أن هذا اليافي لم يعمل، منذ أن بدأ مساعداً لسكرتير تحرير جريدة فلسطين، في أية مهنة غير الصحافة، التي قال عنها ابنه باسم أنها كانت بمثابة الزوجة الثانية لأبيه، وأثناء عمله في جريدة الدستور اختير نقيبا ًللصحفيين لثلاث دورات متتالية، كان فيها خير ممثل لصحفيي الأردن في المؤتمرات والملتقيات العربية والدولية، في حين تم انتخابه عام 1953 عضوا في أول مجلس لنقابة الصحفيين الأردنيين.
وإذا كان ابنه باسم الذي امتهن الصحافة، قد ذهب إلى إحياء تجربة “أخر خبر”، فقد سجل الكثير من محطات والده في كتاب حمل عنوان “صحافة .. ولكن”، في وقت أصدر فيه الأب الذي انغمس في مهنته مجموعة قصصية عام 1982 بعنوان “صور مبتداها في يافا”.
على مدى أكثر من أربعة عقود ظل الصحفي المحترف يكتب عموده اليومي “بسرعة”، وقد تنقل هذا العمود الصحفي مثل صاحبه في العديد من الصحف الأردنية والعربية، وكرمته منظمة التحرير الفلسطينية عام 1990 بمنحه وسام القدس للإبداع.
رحل أبو باسم في عمان في الثامن والعشرين من تموز عام 1991 عن ستة وستين عاما، وعينه على يافا، وقد تتلمذ على يديه جيل من الصحفيين الذين ما زالوا يعترفون بريادته.