د. ريمان عاشور
ثمَّةَ دلالةٌ واضحةٌ جليَّةٌ على معاناة الشاعر في سنواته الأخيرة بعد فقدان بصره..
والدوالُّ في هذه القصيد تُجمِع على ظلمة اكتنفت عالم الشاعر الشعوريَّ، وتجلَّت في ألفاظه المتكرِّرة حين حضرت ألفاظٌ: كالليل والعتمة والظلام حضورًا لافتًا خيَّم على مقاطع القصيدة الستَّة:
نراه في المقطع الأول يستفتح قصيده بـ:
هي امرأة ينام (الليل) فوق ذراعها
فتصير أحلى
وتطلُّ من شبَّاك غرفتها
لتحملها رياح الفجر
نحو جنوبها
وهناك في الطرف القصيِّ فتى يكاد يشبهني
يلملم ما استطاع من النجوم الهاربات
من السؤال المرِّ
في (ليل) المدينة
يرفع كفَّه
في وجه هذه (العتمة) السوداء
يا الله
يا صراطي المستقيم
إلى جنان
لم تطأها بعد أحذية الغزاة
إنِّي هناك
أجثو على صدر القصيدة
كي أعيد قراءة الأسماء
والأشياء
والألوان
أعيد رسم ملامح امرأة
ينام (الليل) فوق ذراعها
رسم بعض جنونها
وجموحها
وغموضها
وغرورها
بقصيدة تمشي على حدِّ الرياح
يا الله
إني هناك
وجميع ساعات الفتى (ليل) مباح
حين انطفأ المصباحُ
أضاءت عيناها زاوية القلب المظلم
قلتُ كفى
هذي مشكاة دمي
فلتتوضأ من عرَقي داليةُ البيت
لعلَّ النور يهدهدني
فالأنثى في ذلك المقطع الشعريِّ، بدت كملجأ لاذَ الشاعر إليه في تيه ظلمته؛ متقصيًّا بعض الأمان الذي توفِّره المرأة للرجل، حتى لو أظلمت دنياه،
أيًّا كانت المرأة المقصودة هنا في هذا النصِّ، سواءً تمثَّلت في الأم أو الزوجة أو الحبيبة أو الابنة، إلَّا أنَّها في نهاية المطاف موطنُ الدفء والأمان والطمأنينة..
ولعلَّ الشاعر أراد بهذه المرأة أمّه أو الحبَّ الأوَّل النديَّ البريء من مصالح الدنيا، وملوِّثات العلاقات الإنسانيَّة، ذاك الحبُّ النقيُّ الكامن في ذاكرة أفئدتنا، صامدًا في وجه قسوة الحياة ومتغيِّراتها..
ها هو ذا يجعل في الطرف القصيِّ الآخر (فتى) يشبهه (يلملم ما استطاع من النجوم الهاربات.. من السؤال المرِّ.. في ليل المدينة يرفع كفَّه في وجه هذي العتمة السوداء)
متضرِّعًا بالدعاء إلى الله عزَّ وجلَّ أن يسوقه إلى (جنان لم تطأها بعد أحذية الغزاة).
لقد حاصر الثالوث: العمى والمرأة والوطن الشاعر، ولم ينفكَّ من أحدها، حيث ارتكزت القصيدة على أثافيها، محاولًا الجثوَّ على صدر القصيد؛ ليعيدَ تشكيل الأسماء والألوان في مخيلته المظلمة مرَّة أخرى، تشكيلًا يتواءم مع حالة الظلام التي اكتنفته، فبدتْ رغبته ملحَّة في اقتناص فرصة تعريف العالم من حوله، ورفض كلِّ ما قد تبنَّاه حين كان مُبصرًا.. ولعلَّ ذلك محاولة شريفة مستحقَّة من الشاعر لبناء واقعٍ جديدٍ في مخيِّلته، يرتضيه ويستكين إليه؛ فيأمن على نفسه، ويهدأ ضجيج روحه الرافض للعتمة والظلام..
وفي كلِّ سطر سطَّرَه الشاعر وجدته محاولًا محاولات متعددة ومختلفة، طارقًا أبواب الظلمة ساعيًا نحو فضِّ غشاوة الليل والظلماء..
واللافت في محاولات عودة هذه أنَّه عاد بالزمن إلى عمر الفتوَّة، أكان يُشير إلى ظلام من نوعٍ آخر حين كان فتى في فلسطين والمدينة يحاصرها الغزاة!
أأراد الإشارة هنا إلى ظلامٍ ابتدأ رحلته معه مذ احتُلَّت فلسطين، وتاه هو في عتمة الاحتلال، حتى اقتنصه العمى الحقيقيُّ في عمره المتأخر لاحقًا!
لقد مزج الشاعر بين الظلام الذي يسبِّبه الاحتلال، والظلام الذي ينتج عن فقدان البصر مزجًا ذكيًّا، وجعلنا نهيم في ظلمتين: إحداهما حقيقيَّة واقعيَّة والأخرى معنويَّة شعوريَّة، ببراعة مستترة غير منكشفة، إلا لمن تمعَّن مليًّا في نسيجه المنسوج في سطوره تلك ثمَّ فكَّكها سطرًا سطرًا..
لاجئًا في ذلك كلِّه إلى تواتر الأفعال المضارعة تواترًا لافتًا، حيث يكشف الزمن المضارع عن ديمومة الحدث وسريان زمنه سريانًا يدفعنا إلى التمعُّن في سيطرة الحدث الفعلي على وعي الشاعر في زمن الكتابة.
بينما تراجع الزمن الماضي الباتر الوصل بين الحدث وصاحبه.
كما ظهر ذلك في المقطع الثاني أيضًا، حين أقام الشاعر حوارًا مع أشجار اللوز مستعيدًا زمنًا انقضى حين مثَّلت تلك الأشجار الموطن الحقيقيَّ للشاعر في زمن صباه وقد شهدت على وحدته واغترابه داليةُ البيت..
يقول في مقطعه الثاني:
“حين انطفأ المصباح
أضاءت عينيها زاوية القلب (المظلم)
قلتُ كفى
هذي مشكاة دمي
فلتتوضأ من عَرَقي داليةُ البيت
لعلَّ النور يهدهدني
ناديتُ، فردَّت أشجار اللوز تقول انهض
ليتيه (الليل) على زنديك.
فقلتُ: تعالي
لا وطن لهذا القلبِ سواكِ
ولتشهد داليةُ البيت
بأني كنتُ وحيدًا.
أفترش ضلوعي تحت الشبَّاك
وأنتظر النور يضيء جوارح متعبة
بلَّلها صدأ الكلمات.
وفي اللوحة الثالثة:
تتعاظمُ العتمة في نفس الشاعر حتى تبلغ حواسًا تفوق حاسَّة البصر، ويكأنَّه يُخبرنا إنَّ العتمة والظلام قد يعطبان حاستي الشمِّ والسمع أيضًا، فينقطع المرء عن محيطه ويتقوقع في ظلمائه وحيدًا تائهًا، تتلاشى ذكريات أطياف من مرُّوا في ذاكرته عبر الوقت ولا يبقى له سوى وحدته القاسية المرَّة..
فهو وحيدٌ تمامًا، خالي الوفاض من ذكراه، الشباك بات أخرسَ هو الآخر، لا صوت ينفد منه.. يستسلم فقط لكتابة المراثي، باحثًا عن وطنٍ بديل يشبهه تمامًا..
هذه الحالة الشعوريَّة للشاعر كمن تاه في صحراء لا يعرف ملامحها ولم يستقرىء علاماتها فما استطاع فكَّ رموز لغتها وانقلب على وجهه يبحث فيها عن ركنٍ جديد يتحسَّس نفسه فيه ويستحدث أبجديّةً جديدة تقوى على التعبير عن ذلك الرجل الجديد الذي ألفاه في نفسه مؤخَّرًا.
“وحيدًا أجلس
و(العتمة) حولي
لا عطر
لا صوت
لا طيف
لا شبَّاك تقرعه الريح وتمضي.
وحيدًا أجلس
إلا من فنجان القهوة
و(العتمة)
والشبَّاك الأخرس
وحيدًا أجلس
أكتبُ مرثاة لدموع النهر
أبحث عن وطنٍ يشبهني
في (ليل) أعمى
تعجز عن وصف ملامحه
كلُّ الكلمات”
وجاء التقرير والاعتراف الصريح في المقطع الرابع بعد أن تسامت الحالة الشعورية عند الشاعر فبلغت ذروة الألم بعد الإنكار والتخبُّط في المقاطع السابقة، إذ نجده يقف وجهًا لوجه أمام الظلام معترفًا في نهاية الأمر اعترافًا لا يقبل التأرجح أو التأويل، إذ أمسى الليل ملكًا له غير مفارق، بعد أن كان طليقًا حرًّا يرسم خارطة طريقه كما يشاء ويبتغي، ويلوِّن بالحرف معانيه التي أراد تلوينها.
وقد جاء هذا المقطع في دفقات ثلاث متتالية تدرَّجت في وصف الحالات النفسية التي مرَّ بها الشاعر بعد مواجهته قدر الله عزَّ وجلَّ في كفِّ بصره، فكانت الدفقة الأولى تمثِّل مرحلة الإنكار رغم الاعتراف بالظلام:
“(الليل) لي
وأنا الذي رسم الطريق كما يشاء
وركبتُ موج الحرف
محتفلًا بما ترويه نافذتي
وأنام مسكونًا برائحة النساء”
وجاءت الدفقة الثانية لتمثِّل مرحلة الاعتراف والمواجهة:
“الليل لي
وأنا الغريب على ضفاف الوهم
أقطف بهجة مكبوتة المعنى
تدلَّت من نجوم ظهيرة سرًّا
وتاهت في المساء”
ثمَّ حضرت الدفقة الثالثة الراضية بحكم الله والمستسلمة لأقداره، محاولةً إيجاد البدائل التي تمكِّن الشاعر من استكمال حياته، حيث اخضرَّ المشهد ببريق الشجر وتموُّج السنابل، إعلانًا عن ولادة جديدة بهيئة جديدة يمكنها استكمال الرحلة حتى مبلغ منتهاها:
“الليل لي
شجرٌ يعيد لنا
بريق حياتنا
ويموج مثل سنابل خضراء
في حقل تعانقه السماء”
وفي المقطع الخامس، دبَّ الأمل من جديد في قلب الشاعر وعاد إلى مقعد قوَّته وعنفوانه، يعرِض مساعدته ونور قلبه على محبوبته، حيث نشطت حواسه من جديد واستنفرت طاقاته الروحيَّة التي سيمدُّ بها محبوبته؛ كيلا تضلَّ طريقها إلى القدس..
“لكي لا تنام عيونك في العتمة الموحشة
سأعطيكِ قلبي
وأعطيكِ قافية لا تخاف الرياح
وأزرع أسئلتي في الطريق إليكِ
لأنَّكِ أنتِ
سؤالي الأخير
وصيفة حرفي
أميرة كلِّ النجوم التي لا تنام
لكي لا تظل الطريق إلى القدس
مثقلة بالرزايا يعيث بها الفاسدون خرابًا
سأعطيكِ ريحانة تملأ الجوَّ عطرًا
تعيد إلى الأرض أسماءها”
وها هي ذي النتيجة التي سعى إليها في مقاطعه الشعريَّة الآنفة، تبين هنا جليَّة في المقطع السادس والأخير حين بلغت المدينة مبلغ الغموض والتيه والظلام، بينما راحت يدا المحبوبة تفكُّ طلاسم الغموض في القصيدة وترسمان الدرب أمام المعنى المنشود..
وكأنَّ المحبوبة وحدها من تملك مفاتيح المغاليق التي ترصف الأزقة وتنيرها بوعيها..
“ليل المدينة غامض
ويداك تنتشران في وعي القصيدة
ترسمان الدرب
بالبلور والحناء
كوني القصيدة
كي أراك بعين شاعر”