علي سعادة
في 29 تشرين الأول/أكتوبر عام 2000 بثت وكالات الأنباء صورة الطفل فارس عودة وهو يتصدى بحجارته لدبابة إسرائيلية، أثارت الصورة (التقطها لوران ريبور من وكالة أ.ب) المجتمع الدولي وتصدرت صفحات الصحف ووسائل الإعلام والمجلات العالمية، وتنافس كبار المصوريين على التقاطها، في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2000 استشهد فارس عودة أمام نفس الدبابة بهدوء أسطوري…هذه صورة لبطل جميل متوهج مثل كوكب دري.
علي
كان الفضاء ممتلئا إلى حافته، فائضا كبحر أضاع شاطئه، مشبعا برائحة الياسمين والزنبق، فيما يتزاحم الشهداء على بوابات وطن نسج من نور ودماء ودموع.
تكاد مآذن القدس أن تورق، وأن ينبت على حجارتها الورق الأخضر، حال العاشق حين يلامس يد معشوقته، كما قال الشاعر العربي، تلك هي فلسطين.
لعل فلسطين قطعة من الجغرافيا خارج نطاق الرؤيا، أو هي قطعة من السماء، وإلا كيف يصعد الشهداء إلى الأعلى حين يدفنون بترابها.
الفلسطينيون، الذين قال نزار قباني أنهم أخر العرب، لم يخترعوا الاستشهاد، هم فقط منحوه قدسية المكان، وكما اخترع الفلسطينيون السلاح الذي لم يتوقعه أحد: الحجارة، أعادوا اكتشاف قدرتهم على الحياة والبطولة.
الصور فضحت الجيش “الأسطورة الذي لا يهزم” طفل في الرابعة عشرة اسمه فارس عودة واجه جالوت اليهودي على أبواب غزة في الصورة الوثيقة التي التقطها لوران ريبور مصور “وكالة الاسوشيتدبرس” واجه العدو بلا مبالاة، “صبي من القرية يطرد كلبا ضالا”.
ترك فارس عودة خلفه صورة لبطل، وملصقا يعلق الى جانب ملصقات تشي جيفارا واحمد ياسين وجمال عبدالناصر، واسما يتعانق مع بطل رواية البؤساء لفيكتور هيجو، الطفل المتمرد الشجاع، مزروع بالإنسانية غير المهزومة التي لا يمكن تحطيمها.
اسمه الأول فارس ويعني knight واسم عائلته عودة يعني return of لقد انعشت صورته حقيقة عودة فرسان المائدة المستديرة، حيث البطولة والشهامة ترفعان من شأن المرء في الموقع اجتماعي.
الفلسطينيون ليسوا محاربين، وبالتأكد ليسوا قتلة، أنهم، كسائر العرب، يحملقون بدهشة واستنكار في مرآة الإعلام الذي يسيطر عليه اليهود فيرون انفسهم وقد البسوا قناع الأرهابيين الدمويين, ، هؤلاء المسجونون المحاصرون ما زالوا قادرين على تلقين المحتل درسا في البطولة عندما يحاول العدو انتزاع ارضهم منهم.
لا تنسى انغام عودة “ام السعيد ” والدة فارس أن تترك لأبنها، الذي مضى على استشهاده نحو 19 عاما مقعدا فارغا على مائدة الطعام، مزينا باكليل من الورد تتوسطه صورة فارس عودة، تجلس العائلة للحظات تمعن النظر باتجاه مقعد فارس وكأنهم ينتظرونه ليقول شيئا.
وأنت تعبر شوارع الضفة الغربية أو قطاع غزة كانت تلفت نظرك صورة كبيرة معلقة لطفل يمسك حجرا ويواجه دبابة، الصورة انتشرت أكثر من أي صورة أخرى، وبدون أن تسأل يجيبك الجميع إنه فارس عودة وكنوع من غموض البطولة فإن الروايات تعددت حول مسقط رأسه فمن قائل من الضفة، ومن قائل أنه من غزة، والسبب في هذا الغموض, أنهم في كل منطقة يعلقون صور شهدائها على الجدران، لكن صورة فارس أمام الدبابة انتشرت في جميع انحاء فلسطين والوطن العربي.
سكن فارس حي الشجاعية بغزة، وحين كان عمره سبع سنوات شارك في الانتفاضة الأولى برشق الجنود بالحجارة، وكان يشارك في اشعال النيران والركض وراء الملثمين المستعربين وكان يخزن إطارات الكاوتشوك في المنزل وعندما يحضر الجنود كان يخرج الإطارات ويشعل فيها النار في شارع صلاح الدين مما يدفع حنود الاحتلال إلى ضرب أهله وتحطيم منزلهم وبسبب ذلك اضطرت العائلة الى الانتقال إلى منطقة داخلية بعيدا عن المدخل الرئيسي للمنطقة.
لم يكن طفللا عاديا كان في داخله كمية غضب هائلة ضد جنود الاحتلال، لم يكن يخافهم بل كان مندفعا بطريقة ملفتة للنظر ففي أول يوم اشتعلت فيه انتفاضة الاقصى عام 2000 سار فارس مع اخوته ورفاقهم إلى المسجد الأقصى للدفاع عنه بعد تدنيس شارون له وشاركوا في المظاهرات في القدس واعتقلته الشرطة الفلسطينية في غزة مع شقيقيه بعد أن حاول عبور السلك الشائك عند مستعمرة نتساريم.
تقول والدته أنه كان حنونا لم يكن طفلا عاديا كان جريئا وشهما كان يحفظ أغاني الانتفاضة ويرددها على الشباك,ويسمع صوت إطلاق النار في المنطار ويحدد نوعية السلاح الذي اطلقت منه اعتاد كل يوم إلا يستمر في المدرسة أكثر من ثلاث حصص وفي الفرصة كان يهرب إلى المنطار منطقة المواجهة الشهيرة في غزة.
كان يستفزه منظر الدم في التلفزيون واذا رأى مصابا او شهيداً يصيح كما المحموم وتغلي الدماء في عروقه ويقفز ويختفي من أمام والديه راكضا نحو المنطار، وحين كان والده يضيق عليه الخناق خوفا عليه كان يصرخ ” والله غير استشهد.. والله غير استشهد”. كانت له طقوس خاصة في مواجهة جيش العدو، إذ كان يتقدم إلى الأمام وهو يدبك ويرقص ويغني كما أكد اقرانه ووالدته والمصورون الذين كانوا يأتون لتصويره.
وكشف الجندي الإسرائيلي الذي قتل فارس عودة بأنه أطلق النار على فارس من كثرة استفزازه له فقطعت رصاصة عيار 500 مم اوتار رقبته.
حين رأته والدته لأول مرة على شاشة التلفزيون أمام الدبابة الأسرائيلية يقذف الحجارة دون خوف بكت وكان المشهد من تصوير عماد عيد الذي أصاب الإسرائيليون سيارته بصاروخ عند حاجز نتساريم وهو الحاجز الذي استشهد عنده محمد الدرة أمام عدسات المصورين وقد صور فارس عدة مصورين من وكالات أنباء عالمية مختلفة عشرات الصور التقطت لأهم المصورين .
ويقول أحد المصورين الذين صورا فارس أمام الدبابة وهو أاحمد جادالله من وكالة رويترز: “أن كل مصوري وكالات الأنباء العالمية يعرفون فارس والتقطوا له عشرات الصور أمام الدبابات الإسرائيلية، وفارس كان شجاعا بدرجة تجعلك تشعر بالضآلة أمامه فنحن نقف بعيدا ونرتدي واقيات من الرصاص لكنه كان يقترب من الدبابة بشكل جنوني وكان وجوده يعني أننا سنخرج بصورة جيدة”.
يوم استشهاده استيقظ فارس مبكرا في السادسة صباحا وتحمم ومشط شعره وارتدى ملابس جديدة واتجه إلى الباب ثم وقف وعاد ونظر إلى وجه أمه يتأمله وذهب مرة أخرى إلى الباب ثم عاد ينظر إلى أمه في استغراب وعندما عاد وفعلها لثالث مرة ايقنت أمه بأن شيئا سيحدث وودعته ” مع السلامة يما”، كان الوقت مبكرا على المواجهات فاتجه إلى المدرسة وبعد الحصة الثالثة قال لزملائه سأذهب لأستشهد.
كانت المسافة التي تفصل بينه وبين الدبابة خمسة أمتار وأطلقت عليه النار من الدبابة فاصابوه في عنقه وقال لرفاقه استشهدت وظنه الرفاق يبالغ وبأنه يمازحهم وكان على الدبابة رشاش كاتم صوت لذلك لم يعرف رفاقه بأنه اصيب إلا بعد أن ارتمى عليهم والدماء تسيل على ملابسه وظل ينزف نحو ساعة تحت وابل من الرصاص دون أن تتمكن أية سيارة أسعاف من الوصول إلى المكان.
ترى أي الصور أكثر التصاقا بالذاكرة منذ الصرخة الأولى منذ الحجر الأول في الانتفاضة: شارون بنظارته السوداء وقلبه الأسود يختال وسط حراسة في باحة الأقصى، مشهد استشهاد محمد الدرة في حضن والده ، الأسطورة فارس عودة في مواجهة الدبابة ، صورتا الطفلتين سارة عبد الحق وايمان حجو مسجيتان على شرشف ابيض بالكاد تتبين لونه من بقع الدم الطاهرة، شهيد الخليل وقد حمله أربعة جنود من يديه وساقيه وكأنهم يحملون فريسة أو طريدة فيما رأسه يتحرك ذات اليمين وذات الشمال وكأنه يشير الى القتلة، أو صور الإعدام العلني لمحمد صلاح في القدس؟.
كان يجب أن تمحى صورة الفلسطيني البطل المقاوم، وأن تبقى فقط صورة الفلسطيني الذي يحمل ابنه على ضهره ، والفلسطينية التي تحمل ربطة ” بقجة” ملابس بالية على رأسها وتهرب مذعورة وهكذا تفتقت الجيش الإسرائيلي عن فكرة جهنمية محو مخيم جنين حتى لا يتحول إلى رمز للمقاومة وأاسطورة مثل ستالينجراد، اليهود سرقوا أرض الفلسطينيين وتراثهم وحرموهم من حقهم في الحياة والبطولة. .
لمست “الايباك” التي تحكم العالم خطورة صورة فارس عودة في موجهة دبابة لذلك ارسلت مجموعة متخصصة لتجريد فارس من البطولة، وزارت جميع الاماكن التي تواجد فيها فارس، وتحدثت مع الكل أردت أن تخرج بنتيجة أن فارس كان “ولدا مشاغبا ومتهورا “.
لم يكن كذلك أبدا ، كان غاضبا على المجزرة المفتوحة ضد شعبه ، وكانت الشهادة ضمن تركيبة روحه الشغوفة بالموت في ساحة المواجهات ، ساحات حرب ملحمية عشعشت في عقل الصبي ، من الذي زرعها في رأسه الصغير! إرهاب تل ابيب المقدس.
سلام عليك يا فارس يوم ولدت، ويوم استشهدت ، ويوم ارتقيت إلى حياة لا موت فيها.