الغناء الشعبي العربي، أو الموسيقى الشعبية العربية، كان موضوع المحاضرة التي ألقاها، باللغة العربية، الموسيقي د. محمد واصف قبل أيام في معهد “قاصد” لتعليم العربية للناطقين بغيرها، وحضرها في العاصمة الأردنية عمّان، مدير المعهد د. خالد أبو عمشة، وعدد من طلبة المعهد من جنسيات مختلفة.حرص واصف، الأستاذ المساعد في كلية الفنون والتصميم بالجامعة الأردنية، في مستهل المحاضرة، على توضيح جملة من المفاهيم التقعيديّة التأسيسية لفهم نوافذ الإبحار في الموسيقى العربية، رائيًا أن موسيقانا العربية هي بالأساس غنائية، فإن كان التقسيم العلمي يقسم الموسيقى إلى نوعيْن: موسيقى آلية وأُخرى غنائية، فإن الموسيقى العربية غنائية في جوهرها، والآلات في حالتها جاءت، أساسًا، لتخدم غنائية هذه الموسيقى وثيَمها وموضوعاتها، وتسهم بتحقيق الانطباع السماعيّ الذي تسعى كلمات أغنية شعبية عربية ما لإيجاده عند المتلقي، مؤمّلة أن تجترح معه (هذا المتلقّي) مشتركًا يحمل قيمة ودلالة ومعنى.يقول واصف إن “لكل مكان أغنيته، ولكل طقس أغنيته… والطقوس تتبع الحالة الاجتماعية التي تتأثر بالرقعة الجغرافية… وبالتالي فإن ابن الساحل لا يغني مثل غناء ابن الجبل… وهذا بدوره يختلف غناؤه عن غناء ابن الوادي. وغناء ابن البادية يختلف عن غناء ابن الريف. ولكل منهم، وبحسب طقوس حياته وتفاصيلها اليومية أغنيته الخاصة به. وعندما نقول أغنيته الخاصة، فإن المقصود هو الشكل البنائي للأغنية، الذي يبدأ من حيث سمات إيقاع هذا الشكل؛ فإيقاعات المنجل في حصاد الريف تختلف عن إيقاعات حدْو الجمل في البادية، وهما، بدورهما، يختلفان عن إيقاع قارب الصيد ورمي الشبكة، أو الصنّارة”. حتى إن طرائق تعبير ابن الريف عن فرحه، وطريقة احتفاله بأعراسه ومناسباته الموسمية والاجتماعية، تختلف، كما يورد واصف في المحاضرة التي أعقبها نقاش خصب، عن طرائق تعبير ابن البادية، أو ابن البحر، وعن تفاعلهما مع هذه المناسبات، فلكل مساحة اجتماعية وخصوصية بيئية “إيقاعاتها الخاصة بها”، ما أوجد “قدرًا خصبًا من التنوّع في ألوان الغناء الشعبي على امتداد العالم العربي”.هذا التنوّع خدم، بحسب واصف، الموسيقى الغنائية على حساب الموسيقى الآلية، فالموسيقى الآلية في الوعي العربي جاءت، يقول واصف، “لترافق الغناء لا لتصنع فرادتها الخاصة بها، فنحن مفطورون على الشعر، توارثناه كابرًا عن كابر. ونحن نقول “أنشد شعرًا”، فالشعر العربي في كينونته الاستهلالية التأسيسية غنائيٌّ إنشاديّ، لا نظمي وتركيبٌ للصور من دون إيقاع ومن دون موسيقى”. يقول واصف: “للكلمة دور مهم في حياتنا ومعنى مهم كذلك، وبالتالي صُنعت آلاتنا الموسيقية بما يتناسب مع غناء كل منطقة وجغرافيا وبيئة عربية؛ الشبّيبة واليرغول والمجوز في الريف، الربابة في البادية، السمسمية عند أهل السواحل البحرية وهكذا دواليك”.واصف، مدير وحدة العلاقات العامة والثقافية والإعلام في الجامعة الأردنية، عدّد في سياق محاضرته ميزات الموسيقى الغنائية العربية، ومن تلك الميزات عدم التعقيد في الشكل البنائي لتلك الأغنية؛ فالجُمل “متسلسلة سلسة، والنقلات انسيابية سهلة، والإيقاعات واضحة، وإن كانت في بعض الأحيان إيقاعات متنقّلة مثل الإيقاعات في الخليج والمغرب العربي، على عكس الموسيقى الغنائية في بلاد الشام وما حولها (خصوصًا مصر والعراق) التي تتميّز ببساطة إيقاعاتها (اثنين على أربعة، ثلاثة على أربعة وأربعة على أربعة بدون أي تعقيد أو تركيب)”.”واصف: نحن نقول “أنشد شعرًا”، فالشعر العربي في كينونته الاستهلالية التأسيسية غنائيٌّ إنشاديّ، لا نظمي وتركيبٌ للصور من دون إيقاع ومن دون موسيقى””وبحسب واصف، المقصود بالموسيقى الشعبية أنها موسيقى من الشعب وإلى الشعب، ولذلك جاءت صادقة، فطرية، عفوية، ثم أردف قائلًا: “أنا شخصيًا ضد المساس، وبشدّة، بشكلها، من الممكن، فقط، وضع خطوط لحنية تساند لحنها الأصلي/ الأساسي مع الحفاظ على عناصره الكبرى وخطّه اللحني الكلّيّ، ومن دون المساس بالإيقاع الحامل لهذا الخط، فكما هو معلوم أن غنى الموسيقى العربية هو بتعددية مقاماتها الشرقية (أكثر من 25 سلّمًا موسيقيًا يمكن أن يتحرك داخلها الخط اللحني الأساسي، ما يعني أن لدينا (ميلودي) غني ومتعدد ومتنوّع)، إضافة إلى غنى المواضيع والثّيم والانطباع السمعيّ المنطلق من الأذن نحو الدماغ، ثم نحو الجهاز العصبي للمتلقي. بينما تقوم الموسيقى الغربية بشكل عام على مستويين لحنيين (ميجر/ ماينر)، ما دفع الموسيقيين الغربيين إلى البحث عن خطوط موسيقية تخدم الخط اللحني الأساسي، وهو ما انبثق عنه علم “البولي فوني” المتكوّن، بدوره، من نوعين: الهارموني المتعلّق بتوافق النغمات، و”الكونتر بوينت” المتعلّق بتوافق الألحان، حيث سعت الموسيقى الغربية من وراء كل ذلك لتجنّب الملل الذي قد ينتج عن موسيقى فقيرة الانطباعات السمعية والموضوعات والثيَم الغنائية المعبّرة عن قضايا، أو هموم، أو مواسم، أو مشاغل أكثر دفقًا وتفاعلية وحرارة كما هي حال الموسيقى الشعبية الغنائية العربية”.يقول واصف في المحاضرة، التي استهلها الزميل محمد جميل خضر بالتقديم للمحاضر: “تطوّرت الموسيقى الشعبية العربية بحكم الواقع، مع محافظتها على جوهر خطّها الأساس وشكلها البنائي والروح التي حملها الشعب عبرها إلى يومنا هذا. وهي تطورات أسهمت بصناعتها استوديوهات التسجيل، وتطوُّر وسائل نشر الموسيقى الشعبية العربية وأرشفتها، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإخبارية، وعموم التطور الذي حققته تكنولوجيا المعلومات والثورة الرقمية”. وأضاف: “نحن اليوم، وهذا أمر جيد ومُستحب، ومع انفتاح العالم على بعضه، وتحوّل الكوكب إلى قرية صغيرة، بِتنا نستمع إلى موسيقى التانجو الأرجنتينية، وموسيقى السامبا البرازيلية، والفلامنجو الإسبانية، وحتى السلّم الخماسي الصيني، وبإمكان أي شخص أن يستمع لأي موسيقى يؤثرها عن غيرها، ثم إن الحكم، بعد ذلك، له، فتفضيل موسيقى عن غيرها هو شأن شخصي، ولا يخضع للنقد العلميّ الأكاديميّ الصارم”.واصف ختم بالقول: “إن الموسيقى الشعبية العربية بغنائيتها وكلماتها جاءت، كما أسلفنا، لتخدم مشهدًا ما؛ مشهد استسقاء المطر، على سبيل المثال، أو حصاد القمح، أو الحض على حب الوطن والذود عنه في الحروب، أو الفرح بقدوم شهر رمضان، أو للتعبير عن أي مناسبة دينية، أو اجتماعية أخرى، وفي الظروف التي تمر بها الأمة العربية هذه الأيام، وفي ظل ما يجري في غزة، فلعلنا نحتاج، كثيرًا، إلى الأغنية التي تكون رفيقة للبندقية، وتسندها، وتتجلى بوصفها كتفًا بكتف مع المقاومين في فلسطين وفي غزّة الذين يدافعون عن الأرض والعِرض وعن الأمة جمعاء. الأغنية في هذا المقام مهمة جدًا، تمامًا كما كانت مهمة للإنسان الأول وهو يحتفل بصيده الأول، ويدافع عن وجوده بأصوات معناه الأول. وكما يتغنّى العربي بالمطر يتغنى، في الوقت نفسه بالبندقية. نحتاج موسيقى شعبية عربية غنائية عفوية، متحلّلة من شروط الخليل بن أحمد الفراهيدي وقوالب بحوره الجامدة، قوامها كلمات تعكس واقع إنسانها العربي، وتبوح بأحلامه، وتعبّر عن تطلعاته”.