آلة القتل الممنهجة التي لا تشبع وتنفث في الرماد نيرانا لن تُوصل البشرية إلى حل. لا يكون الحل في التفجير والضرب والتدمير والتخريب. حتى وإن رميت قنبلة نووية على الشرق الأوسط، ثم ماذا؟ لن تجد بذلك أي حل.
إن كل ما يحدث مجرد تلاقف لكرة النيران بين الأطراف في الشرق الأوسط. وجلّ ما يحدث هو تعقيد المشهد أكثر وإطالة أمد الحرب وربما توسيعها بشكل أخطر. جلّ ما يحدث هو شمل المزيد من الأشخاص في المعاناة بشكل مباشر، وتكبيد المزيد من الآلاف وعشرات الآلاف ومئات الآلاف خسائر أكبر من أجسادهم وعائلاتهم وممتلكاتهم وأموالهم وأحلامهم وسكون عيشهم.
وهل هذا الواقع الذي أراده الإنسان لنفسه؟ أن ينام في العراء؟ أن تزداد الخيام؟ أن تتلوث المياه؟ أن تصبح الأرض جرداء؟ ويصبح الهواء غير قابل للاستنشاق؟ هل هذا الواقع الذي أراده الإنسان لنفسه؟ حيث لا وظائف تحقق أحلام الشباب ولا يتمتع الأطفال بحياة آمنة. أن ندمر الأجيال عقليًا ونفسيًا وعاطفيًا، ونشوه مفهومهم عن أنفسهم والآخرين. أن يحمل الأطفال أعباء على كواهلهم الضعيفة بدلًا من اللعب والاستمتاع؟
ستقتل مئة ألف، ثم ماذا؟ وتطلق ألف صاروخ كل يوم، ثم ماذا؟ وستفجر منازل الأمم بأكملها، ثم ماذا؟ لن تجد بذلك أيّ حل. ومع كل قنبلة يستفحل الكره أكثر، ومع كل رصاصة تتعاظم الفجوات أكثر. وسط كل هذا الركام، تتراكم الأحقاد في قلوب الأفراد بسبب كل صرخاتهم غير المسموعة وصلواتهم غير المُستجابة. وهل هذا الواقع الذي أراده الإنسان لنفسه؟ أن يبقى عالقًا في متاهة “العود الأبدي”؟
إن الشياطين تقتات على الكره والغضب والسخط والألم. ومع تعاظم المقاساة والآلام ستتولد المزيد من الصراعات في الشرق الأوسط وربما أبعد، ولن تهدأ. الجرح لن يبرأ هكذا، والأزمات لا تُحل هكذا. بمعنى، أن تدمر قدرات الأطراف وتكبدهم خسائر باهظة مادية وبشرية قد يفيد على مدى قصير، وتعتقد لوهلة بأنك قادر على السيطرة على واقع المشهد. قد تكون قضيت على أطراف حالة، لكن الأمر سيتجلى بواحدة من أعظم نظريات نيتشه، “العود الأبدي”.
سيكون الواقع أشبه بأفعى تلتهم ذيلها فتختنق بسُمّها ولن تستطيع أن تفلت من إعادة قدرها وتكراره. بمعنى، سيولد من رحم الموت موت أكبر، والأطراف التي حاولت القضاء عليها ستنبت من جديد. لماذا؟ لأن الأمر يخرج من فلك الألم والمعاناة والظلم، الأمر يخرج من فلك واقع هش ومظلم. لذا، إن لم تجد بديلا أفضل لما هو موجود، ولم تبدأ أصوات الحكمة بقيادة الناس إلى جنانها ونجاتها، وإن لم تحاول في إحلال واقع عادل إنساني، ستبقى سحابة صيف تخيم على سماء المنطقة.
لذا، كيف يكون الحل؟ باجتثاث الكره، بالرغم من سهولة الكلمة وصعوبة التطبيق. لكن، لن يتم إلا بإعادة الحقوق والبدء بمحاولة إطفاء النيران المشتعلة. عليك بأخذ شهيق طويل، والمحاولة في العودة إلى طاولة الحوار، رويدًا رويدًا، الآن أو بعد عشرين عامًا. وإما، ستتجلى الحياة بـ”العود الأبدي”.
تقوم نظرية نيتشه على فكرة دائرية الزمن وتكرار أحداثه ذاتها في حلقة مفرغة وبعدد لا يحصى من المرات! يستند نيتشه بنظريته إلى أن الطاقة في الكون محدودة، لذا جل ما تفعله بأنها تتجسد في ذات الأحداث وتتجلى في ذات الوقائع. لذا، المعضلة لا تكمن في أفراد أو أطراف أو مسمّيات أحزاب معينة. فإن استطعت القضاء على “س”، سيخرج من رحم نهايته “ص”. وهكذا تستمر الحياة، بتكرار المشهد، وبالغرق في وحل المقاساة والمعاناة إلى الأبد.
إلى الأبد؟ هل يعني أنه من الممكن عدم التوصل إلى حل لكل هذه المعاناة والصراعات؟ نعم يمكن، وسيتجلى ذلك في إحلال جحيم أبدي لأهالي الشرق الأوسط وربما أبعد. الجحيم الأبدي الذي وعد الله به الإنسان يقبع هنا وليس في كون آخر أو بعد آخر. جحيم ومعاناة وآلام تتوارثها الأجيال، جيل بعد جيل. وإن لم يستطع أحد كسر لعنة النمط السائد من الفكر والأحداث والوقائع والخيارات، سيبقى الإنسان عالقًا مختنقًا في منتصف النفق المظلم، وسيبقى كالأفعى التي تلتهم ذاتها ضائعة في ضياعها في دائرة هشة مفرغة.
وكلما تقدمت السنوات بالإنسان زاد جهله وعاد إلى الوراء، وجل ما سنورّثه للأجيال القادمة عصورًا مظلمة وجاهلية. ستتطور الإنسانية لكنها ستساهم في القضاء على الإنسان بدلًا من تيسير عيشه وتسهيل حياته. سيكون بالتطور الشكلي في الأدوات نهاية الإنسان. وبدلًا من محاولة نشل المجتمعات البشرية إلى بعد أفضل وأكثر وعيًا وحكمة، ستعود في واقعها وحياتها وتردداتها إلى أسفل السافلين وإلى درك مظلم أسود.
وبدلًا من الارتقاء لبعد خامس وسادس ببصيرة أوسع وإيمان أكبر، والمحاولة في إيجاد الله، سيجد الإنسان الشيطان بوجهه وسيصبح لقمة سائغة بيده، تمامًا كما يحدث اليوم. بدلًا من إيجاد عدن المتمثلة بأبعاد حيث التناغم مع كينونة الإنسان وعقله ومع الطبيعة من حوله، بدلًا من نشر المحبة والسلام والأمان، ستنهار مجتمعات أكثر، وسيبقى الإنسان غارقًا في وحل دمه. والأجيال القادمة ستعاني وتقاسي كما نحن نعاني بسبب أجدادنا وخياراتنا.
لذا، ما الحل؟ لا حل إلا في إيجاد فكر جديد وبرمجة عقلية فكرية جديدة. الحل لا يكون إلا بوقف آلة القتل وأن يحاول الإنسان وضع أحقاده جانبًا لوهلة، ويفكر بالسير في طرق جديدة. الحل في اختيار خيارات جديدة واحتمالات جديدة قادرة على فتح بوابات زمنية جديدة تحدد قدرنا ومصيرنا بشكل مغاير. على هذا العالم مراجعة نفسه مراجعة حقيقية أخلاقية إنسانية وأن يقرر أيّ واقع يريد أن يعيش فيه. عليه مراجعة قيمه وفكره، والطريق الذي يريد أن يستمر فيه.
بالرغم من أنني لست متفائلة من أننا قد نجد “يوتيرن”، لأن البشر قرروا أن “كل ما يحدث سوف يحدث مرة أخرى”. ولست متفائلة من أننا قد نجد طريقًا لواقع أفضل، لأن من يقود يصر على تنويم العامة، والمتنورون وُضعوا في زنازين وقيدوا في أغلال لا تعد ولا تحصى. لذا، مع الأسف لا أملك أيّ توقعات إيجابية بنتيجة أفضل وربما فات الأوان حقًا. لكن بالرغم من ذلك علينا أن نحاول، الآن وغدًا وبعد مئة عام، وإلا سنبقى قابعين في سجن خلود ملعون.
اترك تعليقاً