لو قيل لي قبل عامين ان ترامب سيعود رئيسا للولايات المتحدة لرفضت المقولة واتهمت صاحبها بالتخريف او التهريج، فقد كنت اعتقد ان ذلك ضرب من المستحيل فالرجل متورط في صدام مع القانون وقد امضى ايامه الاخيرة في الحكم رافضا للاعتراف بنتائج الانتخابات ومحرضا للجماعات التي اعتبرها الكثيرون خارجة على الديمقراطية وشروطها، كما كشفت ولايته السابقة عن ميول للمغامرة التي قد تضع النظام الديمقراطي برمته في مهب الريح.
بالرغم من كل الادلاءات التي قدمها نائبه السابق بنس ووزير خارجيته السابق بومبيو ومندوبة إدارته في البيت الأبيض نيكي بأنه قد لا يصلح ليقود البلاد الا ان تيارا قويا في الولايات المتحدة اندفع بثقة وايمان ليدعم ترشح الرجل وتقديره واعتباره المرشح الوحيد القادر على وضع حد لازمات البلاد الداخلية ومآزق الولايات المتحدة في الخارج.
فقبل الانتخابات بأيام عبر ما يقارب من نصف السكان عن امتعاضهم من تعامل الادارة الديمقراطية مع الملف الاقتصادي وقالوا انهم يعيشون أوقاتا صعبة وكما في الاقتصاد تزايدت نسب الذين عبروا عن امتعاضهم من السياسات التي اتبعها الديمقراطيون ونالت من القيم التي يعمل على تكريسها الجمهوريين .
تلك القيم هي المرتكزات الثلاثة للفكر الجمهوري والمتمثلة في الاعلاء من شأن الاسرة “Family” والمصالح العليا للدولة “Flag” و العقيدة “Faith”، هذه القيم التي تبنتها إدارة الرئيس ريغان وجرى التأكيد عليها إبان تولي بوش الابن الرئاسة واصبحت موجهات ومرتكزات لعقيدة ورؤية وسياسات ومواقف الجمهوريون أينما كانوا.
لا أحد من الجمهوريين يحب الحالة التي وصلت اليها البلاد في آخر عام من حكم الديمقراطيين فقد فقدت الدولة العظمى جُل نفوذها وتأثيرها على ما يحدث في العالم، فالحرب تشتعل في كل مكان وامريكا لا تأثير يذكر لها على الأطراف بالرغم انها تمول اوكرانيا وإسرائيل..
العالم اليوم متورط ومترهل مثل شخص زاد وزنه وكسلت اطرافه وفقد القدرة على مزاولة نشاطه الاعتيادي ولديه احساس بأن يتغير ولكنه لا يعرف بأي اتجاه يتغير وقد اصبح في ترامب وصفة التغيير، فماذا سيفعل ؟..
نعم، لقد اصبح واضحا ان العالم العربي قد غادر مربع العقيدة كمكون اساسي لهويته وبدأ الجميع يطارد اي افصاح عن هوية إسلامية تحت مبررات ارتباط التدين الإسلامي بالارهاب، لغسيل الادمغة وشيطنة الميول جرى فبركة منظمة انتجتها الدوائر الاستخبارية الغربية بالتعاون مع بعض الشركاء في الاقليم من أجل ربط التدين بهذه الصورة البشعة التي تمت صناعتها كنموذج يشار اليه عند كل جولة لمحاربة التدين.
على المستوى الاخر أمعن الغرب وعملاؤه العرب في ضرب كل ما هو قومي تحت مبررات اسلحة الدمار الشامل واطلاق الحريات وتوسيع دائرة المشاركة .
لقد اصبح واضحا أن الامة العربية تسير بخطى متسارعة نحو حتفها فلم تعد دمشق ولا بغداد ولا حتى القاهرة عواصم للتأثير والاشعاع، ولم تعد مكة نقطة جذب ومركزا لمؤتمرات التلاقي الإسلامي كما كانت عبر التاريخ بعد ان شهدت بلدان الإسلام منابر متعددة الألوان ومتنوعة الخطابة، حتى الاماكن المقدسة تقلصت أدوارها كمقاصد للتلاقي الاسلامي لتصبح مواقعو يقصدها الفقراء واليائسين لبث ادعيتهم بأن يغير الله أحوالهم وينتقم لهم من اعداءهم.
بخصوص القضية المركزية فمن الواضح أن الفلسطينيين منقسمون الى تيارين الاول متمسك ببقايا الوثائق والقرارات ومقتطفات البيانات والخطب وذكرى نضالات ما قبل السبعين، والساعين اليوم الى شهادات حسن السلوك من النظام الاستثعماري الغربي وذراعه العسكري الاسرائيلي والتيار المقاوم على الارض المصنف انه متمرد وشرير لمطالبته بالحرية والكرامة والحقوق ومقاومته للبطش والغطرسة والاذلال.
بالنسبة لترامب وتياره فهناك افتراضات حول العرب وعقيدتهم تحدد وتوجه العلاقة معهم فهم قوم أشرار في ايديهم ثروة يجب الاستيلاء على نصفها ومنع استخدامهم للنصف الثاني لغير اللهو والهدر والتسلية.
على صعيد المجتمعات العربية هناك ثلاث طبقات :
– طبقة الشعوب العربية التي جردت من تأثيرها وقوتها وجرى خداعها والالتفاف عليها فأصبحت ممنوعة من ان تنظم نفسها او ان تستخدم حقها في حكم ذاتها وهي مسيرة ومحكومة بنظام ضبط وسيطرة محكمين.
-الطبقة الثانية هي طبقة الانظمة السياسية العربية الموجهة من القوى المؤثرة .
-ما بين الانظمة السياسية المستبدة والفئات الشعبية الحالمة توجد طبقة التجار والسماسرة والعملاء وهم القوة الضاربة الخفية التي تستخدمها الحركة الاحتلالية والقوى الاستعمارية ووظيفتها الهدر والفوضى والتشتيت ومنع التقدم .
الحركة الاحتلالية نظام استعماري لا مشكلة للغرب مع كيف بدأ ولا احد يعترض جديا على ما تقوم به بل ان الجميع يحاول إسترضاءها، وهذه الحركة ترى العرب كما رأت أمريكيا الهنود الحمر وكما رأت استراليا المواطنين الأصليين فهم اقل من ان يعاملوا على قدم المساواة وما هم الا حمولة زائدة وعوائق ينبغي التخلص منها بالابعاد او القتل او التحجيم على أقل احتمال ..
ما يريده ترامب من المنطقة لا يخرج عن اعادة توزيع للمديح واشارات القبول والرضا بين الانظمة التي تتسابق على نيل وده، فقد يقول مثلا انه يشكر الزعيم الفلاني او يلمح الى انه غاضب من ذلك الرئيس او الأمير ليتغير كل شيء .
وفي تقديري أن ما سيقوم به ترامب في المنطقة لا يعدو محاولات وقرارات تحاول بيان :-
١ – انه قادر على التعامل مع المنطقة بطريقة افضل من الديمقراطيين ويستطيع عقد صفقات يفرضها على الأطراف بقوة التهديد .
٢- سيحاول ان يعطي لإسرائيل من ممتلكات وأراضي العرب ما لم يعطه سياسي غربي منذ الأزل وقد يقابل ذلك برفض دولي يسهم في ابطاء مسيرته نحو هذه الأهداف.
٣- سيتبنى سياسات ردع تهدف لتغيير السلوك الإيراني ووقف شيئا من تهديداتها لإسرائيل مع تغذية الشعور بخطرها على العرب من اجل التقارب مع إسرائيل واستمرارهم كعملاء رئيسين لسوق السلاح الذي يشكل دعامة من دعائم الاقتصاد الامريكي.
٤- محاولة استعراض نفوذ وتأثير الادارة الجديدة على الساحة العربية من خلال مناورات مدروسة قد تتوجه الى الفلسطينين بشكل خاص وقد تطال الاردن ولبنان.
٥- اللعب على الملفات العربية في سوريه والعراق.
مع كل ذلك فقد يفاجئنا ترامب بعمل لا يتوقعه أحد فهو شخص مسكون بجنون العظمة له سلوك وأطوار غريبة يهوى المصارعة والحسم لكنه أقل دموية من كل الذين سبقوه.. الشيء الذي قد يساعد في فهم الرجل يتمثل في الفارق الحقيقي بين ما قال انه سيفعل وما سيفعله على الارض
اترك تعليقاً