ابتداء، فإن الكارثة التي حلت بسوريا والأمة، ليست ناجمة عن سقوط نظام بل عن إسقاط دولة وبتنسيق ميداني واضح بين واشنطن وهيئة تحرير الشام والعدو الصهيوني والطورانية التركية الجديدة، وفي كل الحالات المشابهة من الصعب تجاهل أو إنكار أصابع الحلف المذكور وأدواته والتي لم تستهدف القوى التي لا تروق لهذا الحلف من أجل استبدال نظام شمولي بآخر ديموقراطي مزعوم، بل في سياقات أخرى على رأسها، الشرق الأوسط الإبراهيمي وما يتطلبه من تصفية للقضية الفلسطينية ومحور وثقافة المقاومة.
الخلفية العامة، التقسيم الطائفي والشرق الأوسط الإبراهيمي:
تعود مشاريع التقسيم المتداولة إلى سطح الأحداث كواحدة من الأسباب الأساسية للكارثة السورية والغزو التكفيري بدعم واشنطن وأنقرة وبالتكامل مع الغزو الصهيوني لمساحات واسعة من جنوب سوريا وتحطيم الجيش السوري، وثمة ما يقال عن صفقات أخرى.
فالمسألة ليست سقوط نظام بل إسقاط دولة برمتها وتحضيرها لمقصات التقسيم الطائفي والجهوي وترجمة ذلك في دستور فدرالي طائفي، يذكرنا بدستور بريمر الذي أعده مستشاره الأمريكي اليهودي، نوح فيلدمان، كما يذكرنا بالتوظيف السياسي للدين بدءا من دور بابا بولندا كمفتاح ضد المعسكر الاشتراكي، وصعود التيار الحاخامي والصهيونية الدينية مقابل الصهيونية السياسية، وكذلك الإسلام الأطلسي.
وقد مثلت مرحلة كارتر ثم ريغان صعودا ملحوظا في تعميم المناخات الكالفينية (البروتسنتية) في الولايات المتحدة نفسها وصولا إلى الإبراهيمية السياسية وقبلها الجهاد الأمريكي في أفغانستان.
إلى ذلك، وفيما يخص مشاريع التقسيم الطائفية عموما والتي تجري باسم مضلل هو “اللامركزية”، فقد انطلقت عمليا من الصومال بعد إسقاط الدولة هناك تحت عنوان مماثل (سقوط نظام زياد بري) الذي ساهم هو نفسه في ذلك حين سيطرت عليه الأوهام السياسية ومنها الاستدارة نحو دول نفطية معروفة، ومنذ ذلك الحين تواصل سقوط الدول وليس الأنظمة، ودخلت حالة من التشظي الطائفي والجهوي، سواء من الداخل أو بعدوان خارجي أطلسي، أو بالعاملين معا، من السودان (انفصال الجنوب وقد تلحقه دارفور) إلى العراق ثم ليبيا بعد عدوان أطلسي متحالف مع أنقرة وجماعات الإسلام الأطلسي، واليوم سوريا عبر تقاسم وظيفي عدواني – طوراني برعاية أطلسية وضمن الآليات نفسها، الدسترة الطائفية والجهوية.
وقد لا يعرف البعض أن أول مشروع لتقسيم سوريا وترجمة ذلك في دستور طائفي، جرى بعد العدوان الفرنسي عليها واحتلالها بعد معركة ميسلون 1920، وإلغاء سوريا كدولة في عموم البلاد السورية (سوريا الحالية، الأردن، فلسطين، ولبنان)، وإلغاء الدستور الديموقراطي الذي وضعه المؤتمر السوري العام في مؤتمراته المتتالية 1919 و1920، وكذلك إلغاء العلم العربي للدولة والذي سبق وأقره مؤتمر بيروت 1913 كعلم للعرب، وهو العلم الذي صار علما لفلسطين وحزب البعث، ثم صار علما للدولة السورية الموحدة قبل سقوطها بإضافة النجمة داخل المثلث (علم الأردن الحالي).
المفارقة هنا أن العلم الذي فرضه الاستعمار الفرنسي كممثل للحكومات الطائفية التي شكلها هذا الاستعمار آنذاك (3 نجمات تمثل هذه الحكومات) بدل العلم العربي هو نفسه الذي عادت (المعارضة) السورية إليه مقابل علم الدولة السورية الذي يمثل الوحدة العربية مع مصر.
أما بالنسبة لمشاريع التقسيم الأمريكية – الصهيونية للوطن العربي فيمكن العودة إلى المشاريع التالية:
1- ما ورد تحت عنوان (خنجر إسرائيل) ويتحدث عن الخطة الإسرائيلية لتمزيق الوطن العربي والتي وضعت بعد العدوان الثلاثي على مصر 1956، وقد فضحها الصحفي الهندي “كارنجيا” عام 1957 في كتاب وضع مقدمته الرئيس جمال عبد الناصر آنذاك، وتتحدث الخطة عن عزل مصر وتفتيت العراق وسوريا ولبنان والسودان وليبيا، مع إقامة تحالف (إسرائيلي – تركي) لترجمة هذه الخطة.
2- انتعاش هذه السيناريوهات بعد وفاة عبد الناصر والانقلاب الساداتي وعودة أفكار الفوضى الطائفية للنقاش مجددا.
3- استراتيجية إسرائيل في الثمانينات والتي وضعها الصحفي الإسرائيلي “أوديد ينون” عام 1982.
4- مشروع المؤرخ اليهودي الأمريكي من أصل بريطاني، برنارد لويس، الذي أقره الكونغرس الأمريكي 1983.
5- مشاريع الشرق الأوسط الجديد عند شمعون بيريز ونتنياهو ورايس.
6- مشروع وزير شؤون القدس والشتات الإسرائيلي في حكومة العدو، “ناتان شارانسكي” 2005.
7- مشروع شارون 1982.
8- مشروع “يحزقيل درور” 1985.
9- مشروع مؤتمر جامعة “بار ايلان” 1992.
10- مشروع “جيفري جولدبيرغ” 2008.
11- ما ورد في تقرير المشهد الصهيوني للمنطقة عام 2015.
قوى الغزو وأدواتها:
بهذا الحضور أو ذاك يمكن القول أن معظم عواصم الأطلسي الأساسية شاركت في غزو سوريا، انطلاقا من حسابات مختلفة في إطار الاستراتيجية الأطلسية، ولم تنقصها الذرائع الشائعة من الديموقراطية إلى مناهضة الشمولية:
- أمريكيا، تسعى واشنطن إلى وضع اليد على “الهارت لاند” أي قلب العالم الجنوبي الشرق أوسطي، مقابل “الهارت لاند” الروسي الاوراسي وطريق الحرير الصيني.
- الدور البريطاني، معقل الإسلام السياسي الأطلسي الناعم والخشن منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا.
- وهناك الدور الفرنسي المناهض تاريخيا لدمشق، والمهتم بالورقة الكردية وغيرها من عناصر تمزيق سوريا.
- الأبرز هو التقاسم الوظيفي الإقليمي بين إسطنبول والعدو الصهيوني في إطار مشروع (إسرائيل الكبرى) من جهة، والمشروع الطوراني التركي التوسعي من جهة أخرى، والذي يسعى بذريعة اللاجئين السوريين ونشاطات حزب العمال الكردستاني لابتلاع حلب والموصل نهائيا وتنصيب دمية تابعة لها في دمشق، كما نعرف أن التنسيق الأمني بين أنقرة وتل أبيب لم ينقطع لحظة واحدة، وأن غالبية يهود الكيان يعودون إلى أصول تركية خزرية، وسبق ليهود حلب أن ساعدوا السلطان سليم الأول في معركة مرج دابق 1516 ضد المماليك.
- صهيونيا، يسعى العدو لتجديد وظيفته الإقليمية الدركية المتآكلة والاستفادة من اكتشافات الغاز قبالة ساحل فلسطين المحتلة، لتعميق تحالفه العدواني الاستراتيجي مع واشنطن وتوظيف هذا الغاز مقابل الغاز الإيراني والروسي، ووضع يده على الشرق الأوسط ضمن معادلة المركز الإسرائيلي والمحيط العربي التابع بين حيفا وبغداد، وثمة أصوات عند العدو تتحدث بلغة أخرى تحت عنوان “مملكة القدس اليهودية” على غرار مملكة القدس اللاتينية إبان الحملات المعروفة بالحملات الصليبية.
- أما أبرز الأدوات الأخرى بالإضافة لمجموعات إسطنبول المتعددة، فهي جماعات الإسلام الأطلسي ولا سيما الخشنة منها التي ولدت من رحم الوهابية العزيزة على قلب المخابرات البريطانية ووريثتها المخابرات الأمريكية.
ومن الثابت أيضا أن هذه الجماعات أيا كانت أقنعتها السياسية باتت جماعات متعددة الولاءات الخارجية ومن ذلك تل أبيب بإعلانها الصريح والواضح أنها غير معنية بالصراع العربي الصهيوني.
وليس بلا معنى أن يعلن قادتها أنهم ليسوا معنيين بهذا الصراع ولن يثيروا مشاكل مع إسرائيل ويسمون الاعتداءات الصهيونية على سوريا وجيشها بـ “التجاوزات” ومثل ذلك ما قاله الناطق باسمها لقناة الجديد مساء 15 كانون الأول الجاري من أن أسباب الخلاف مع إسرائيل انتهت مع خروج الميليشيات الإيرانية التي كانت سببا في هذا الخلاف.
ومن الملاحظات الأخرى ذات الصلة هو تجنب الجماعات الأصولية بقيادة هيئة تحرير الشام دخول معسكرات الجيش السوري الخالية من الجنود، كما لو أن هناك تنسيق تقسيم عمل مع القوات الصهيونية التي تولت قصف هذه المعسكرات وتدميرها، للتخلص منها ولإعطاء الفرصة لهذه الجماعات من أجل بناء جيش جديد تحت سيطرتها.
وكان ملاحظا أيضا منذ اليوم الأول كيف قام إعلام الغزو ومنابره الكثيرة بالتغطية على الدور الأساسي للجماعات المذكورة المصنفة دوليا ضمن الجماعات الإرهابية، مرة بالتركيز على عنتاب كمركز للحركة وليس على أدلب مركز الإرهابيين، ومرة بتسويق قادتهم كقادة عسكريين في المعارضة أو العمليات العسكرية وليست كقادة لجبهة النصرة (فرع القادة في سوريا) والذي تحول إلى “هيئة تحرير الشام”.
ولن يمر وقت طويل حتى تقوم عواصم الأطلسي برفع اسم هذا التنظيم الإرهابي من قوائم الإرهاب الدولية، بل أن بلينكن وزير الخارجية الأمريكية اعترف بالتنسيق مع هذا التنظيم في أحداث سوريا الأخيرة.
أهداف أخرى للغزو:
- بإنهاء سوريا كدولة ممانعة، استكمال مشاريع تصفية القضية الفلسطينية ودول قوى المحور، وإشاعة المناخات الطائفية تحضيرا للشرق الأوسط الإبراهيمي المذكور، سواء بإطلاق الفوضى الطائفية المسلحة أو في إطار
أشكال من الفدراليات الطائفية. - عزل القضية الفلسطينية والاستفراد بالشعب والمقاومة الفلسطينية واستكمال المذابح في غزة تمهيدا لطي هذا الملف.
- في إطار التقاسم الوظيفي الطوراني الصهيوني، وإضعاف المقاومة في لبنان وغزة عبر القصف الوحشي وتحطيم الجيش السوري، توفير بيئة لدور عسكري وسياسي واقتصادي تركي متزايد وغطاء سياسي لاستيلاء العدو على حوض المياه الممتدة من شبعا إلى اليرموك بالكامل وعلى كامل محيط الجولان والسيطرة على الطريق إلى دمشق.
- توفير ذرائع لانتشار القواعد الأمريكي بحجة الفوضى وتهديد الأمن الإقليمي والدولي.
- نشر الفوضى التي أظهرت أن العدو الصهيوني يفضلها للمزيد من قضم الأراضي والتدخل المستمر وتسويق نفسه عالميا.
- تعزيز البنية الاجتماعية لقوى الثورة المضادة والسوق المتوحش مقابل تفكيك القطاع العام السوري.
- تطويق قنوات وشرايين الغاز الإيراني (ثاني أكبر احتياطي عالمي) واستبداله بالغاز المتكشف قبالة سواحل فلسطين المحتلة وجنوب لبنان.
تحضيرات الغزو - قانون قيصر والحصار الاقتصادي للضغط على الأهالي وعلى داعمي الدولة السورية مثل إيران وروسيا مع مرور الوقت.
- الإنهاك العسكري لعموم قوى ودول المحور، من حيث التبعات العامة والتكاليف والذخائر وخسائر الضباط والمستشارين، وهو ما أدى في الأشهر الأخيرة إلى ترهل ملحوظ في قوى المحور سياسيا وعسكريا.
- الاختراق الناعم والتخريب من الداخل وتقاسم عمل لدول نفطية وخليجية سواء مع سوريا أو إيران أو روسيا، وتغذية الأوهام حول الآفاق السياسية والاقتصادية لذلك.
- استراتيجية الاغتيالات بحق قادة سياسيين وعسكريين كبار من قوى ودول المحور، بدءا من قاسم سليماني والعديد من قادة حزب الله والمقاومة الفلسطينية مرورا بالشبهات حول حادثة طائرة الرئيس الإيراني رئيسي.
وباغتيال قادة من وزن هنية والسنوار، والحدث الجلل الكبير باغتيال سماحة السيد حسن نصر الله، الذي شكل من جمال عبد الناصر أهم اثنين في التاريخ العربي المعاصر. - حملة التحريض الطائفي الواسعة التي شنتها منابر التحالف الأطلسي – الصهيوني، وامتداداته العربية، بالاستفادة أيضا من التركيبة الاجتماعية العربية السائدة التي لم تقترب حتى الآن من بنية المجتمعات المدنية الحديثة.
- مظاهر الخلل والاضطراب الطائفية والجهوية في مواقع وتجمعات عديدة للثورة المضادة وصلت حد رفع أعلام طائفية وجهوية في مظاهرات ترددت فيها أصوات بنكهة إسرائيلية.
- من التحضيرات الخاصة بقادة الجماعات الأصولية التكفيرية تغطيتهم كمعارضة سياسية لا كجماعات إرهابية.
أسباب أخرى لنجاح الغزو:
- الخلل الذي أصاب وحدة المحور وداعميه حول سبل التضامن مع المقاومة الفلسطينية بعد طوفان الأقصى، وهو الذي ظهر أيضا بشكل خاص في الأشهر الأخيرة بين إيران وروسيا في سوريا.
- الخلل الميداني بعد إشكالات ثانوية داخل المحور الذي أحدثه انسحاب العديد من فصائل المحور من مناطق حساسة حول حلب وشرق سوريا، وهي الفصائل الأكثر خبرة في حرب العصابات.
- التردد ونزعات المساومة (والنوم في القصب) حتى صار واضحا أنه كلما ازداد معسكر الإعداء صلافة وتطرفا، كلما ازدادت قوى المحور اعتدالا وأوهاما.
- هناك تساؤلات ميدانية وسياسية، الميدانية تدور حول البلاغات العسكرية التي كانت تصدر عن وزارة الدفاع مع انطلاق الغزو، وكانت تدعو المواطنين إلى الثقة بالجيش وتكرر ذلك بعد كل انسحاب بدون قتال، وكأنها كانت بغرض منع الناس من المقاومة والاعتماد على الجيش.
وأما التساؤلات السياسية فتدور حول إشاعات عن صفقات إقليمية ودولية.
- المفارقة الإشكالية في سوريا، نظام وطني وركيزة لمحور المقاومة ولكن بقاعدة شعبية متآكلة، بسبب الفساد واحتكار السلطة من جانب، وانتشار الفكر الطائفي في تركيبة اجتماعية غير مدنية من جانب آخر.
تداعيات وآفاق:
- أيا كانت لحظة وحالة الإحساس الأمريكي بالنصر بعد إسقاط الدولة السورية وانسحاب المستشارين الإيرانيين والروس ونقل سوريا إلى المعسكر الأمريكي – الصهيوني، إلا أن ذلك لا يلغي الأزمة البنيوية المتفاقمة للإمبريالية الأمريكية كما سبق وحذر منها فيلسوف هذه الإمبريالية، بريجنسكي، وتتناول التداعيات الاستراتيجية للثورة المعلوماتية ودخول الدولار في أزمة وجود أمام الشكل الجديد للنظام العالمي النقدي، والتقدم المضطرد لقوى مثل الصين في المشهد العالمي.
فعلى أهمية الشرق الأوسط عالميا إلا أنه لم يعد العامل الحاسم الوحيد في ميزان القوى العالمي الذي يتحرك على نحو مختلف في بقية القارات.
- على صعيد القوى الأخرى الشريكة لواشنطن في الاستيلاء على سوريا، مثل تركيا والكيان الصهيوني، فإن الملامح العامة للأزمة الداخلية لكليهما أعمق بكثير من تداعيات المشهد السوري، وذلك بالنظر إلى الإشكاليات المزمنة ومنها الإشكالية الديموغرافية وتداعياتها السياسية والاجتماعية.
- بالمقابل، ثمة مخاوف من أن يقطع التطبيع الموضوعي أو المباشر خطوات واسعة مع العدو الصهيوني، خصوصا بعد التصريحات المتتالية لقادة هيئة تحرير الشام حول نظرتهم لإسرائيل.
- يشار كذلك إلى أوهام التعايش المسوقة حول طبيعة الفصائل التي استولت على السلطة في سوريا، فالتمكين الناعم استراتيجية معروفة لدى هذه الفصائل.
- من التداعيات الأخرى المتوقعة، أسئلة حول الفترة التي تستغرقها الفصائل المذكورة في حكم دمشق قبل انفجارات شعبية سلمية ومسلحة مفتوحة على كل الاحتمالات، وبينها السقوط المتجدد لجماعات الإسلام السياسي الأطلسي كما حدث معها في أكثر من بلد بعد تسلمهم السلطة فيه.
اترك تعليقاً