نحن على أعتاب عام 2025 نعيش في عالم حيث الأدوات متطورة والعقول متحجرة. لا يزال العالم في الكثير من الأماكن يتعامل مع النساء وكأنهن خارج إطار الإنسانية، أو كأنهن “إنسان من الدرجة الثانية”. والأمثلة كثيرة والحاضر أكثر قتامة.
بدءًا من إيران التي تقتل النساء وتلاحقهن وتسمح بالتعرض لهن في الشوارع بسبب عدم ارتداء الحجاب بطريقة مناسبة. ثم تعرج على أفغانستان لترى عجائب لا يمكن للعقل فهمها أو استيعابها في العصر الحديث. تُمنع النساء من التعليم، وكأن إسكات أصواتهن حتى في المنازل هدف مشروع.
في ليبيا، يُعاد استحداث شرطة “الآداب” الموجهة حصريًا للنساء. ثم سوريا، حيث تتزايد المخاوف الدولية والإقليمية والعربية والداخلية من تقليص دور المرأة تحت ذريعة تقاليد وأفكار متطرفة. مخاوف من أحمد الشرع (أبومحمد الجولاني) وتاريخه الذي يعج بعلامات استفهام خاصة في ظل ارتباطاته السابقة مع جهات متطرفة مرعبة بفكرها، إلى الحكومة السورية المؤقتة التي يحمل أفرادها فكرًا أحاديًا متشددًا غير مرغوب به في عالم يصبو نحو السلام والتوازن والانفتاح الفكري والتطور.
سوريا الغارقة في ركام حروبها وصراعاتها وأزماتها، تحتاج إلى من يفكر في انتشالها من الاقتصاد المنهار، ومن الفجوات الاجتماعية والفكرية التي ضربت النسيج المجتمعي. تحتاج إلى من يفكر في كيفية النهوض ببنيتها التحتية، لا إلى من يفكر في الإدلاء بتصريحات عن أدوار المرأة.
تخيل معي أن تكون تحت المجهر طوال الوقت؛ كلامك وأفعالك وصوتك وآراؤك وقرارات حياتك معرضة للنقد وإطلاق الأحكام أمام العامة
سوريا التي تعاني من فراغ سياسي بعد سقوط النظام، والتي تقف على شفا صراعات أهلية داخلية بين مكونات المجتمع، وما زال هناك من أفراد الحكومة المؤقتة من يجد مساحة للترويج لأفكار مشوهة، بأن النساء عاطفيات وأن تركيبتهن البيولوجية لا تسمح لهن بأداء كافة الأدوار، مستندًا إلى حجج واهية لا صحة ولا مرجعية علمية حقيقية لها. وهي انعكاس لفكر متطرف منحرف، يخرج من أشخاص يملكون صورة مشوهة عن ذواتهم وعن الآخرين ومجتمعاتهم.
نحن على أبواب 2025، ولا تزال النساء في بعض الدول غير قادرات على تقرير مصيرهن، يُلاحقن بسبب مظهرهن، ويُجبرن على ارتداء “الخيمة” فوق رؤوسهن. هذا يعتبر انحدارًا فكريًا وتحجرًا عقليًا وترهيبًا ضد النساء.
أهذه أفغانستان حيث كانت النساء يدرسن الرياضيات والطيران والفيزياء والكيمياء؟ تتغنى طالبان اليوم بإنجازاتها المتمثلة في إتلاف الآلات الموسيقية ومنع ظهور أيّ كائن حي على التلفاز؟ أهذه إيران، مهد الحضارات والفنون، الرسم والفلسفة والعلوم، أضحت تُلاحق شعر النساء وتقيدهنّ بقوانين بوليسية؟
كيف كان مقدرًا لوعي الإنسان أن يتطور بهذا الشكل المريب؟ الكثير من المجتمعات غاصت في قاع الوحل الأخلاقي والقيمي. وماذا يفعل العالم؟ يراقب عملية صناعة الرعب الفكري بصمت. هذا الصمت العالمي شريك بالجريمة، ويهيّأ لي أن المقصد من هذا النظام العالمي كان وسيبقى تدمير الشعوب والدول فكريًا وقيميًا.
لم يكن المقصد الارتقاء بهم، إنما إبقاؤهم في الجحيم. كان المقصد خلق أفراد مشوهين فكريًا وقيميًا وإنسانيًا على حدود روسيا لإرعابها، وفي سوريا لتقسيمها ونهبها، وفي ليبيا لإبقائها ممزقة، وفي أفريقيا والأماكن تتوسع.
لن تتحرر النساء إلا عندما يقررن ذلك، ولن تنهض المجتمعات إلا بدعم الرجال الواعين بهذه القضية
الهدف لم يكن يومًا تحرير الشعوب أو تمكين النساء، بل إبقاء المجتمعات غارقة في الظلام، حيث يمكن استغلالها لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية. الهدف زج الإنسان في جحيم أبدي فكري ثقافي لا يحترم إنسانيته. لأن مع انهيار النساء ومع انتشار أفكار مخيفة ومرعبة كهذه في المجتمعات، يضمنون هدمها وتفكيكها وانهيارها أخلاقيًا وإنسانيًا وقيميًا وفكريًا وثقافيًا.
لأن المقصد بقاء المنطقة مكسورة ومنكوبة وضمان أنها لن تقف على قدميها من جديد، حتى لا يكون هناك أيّ حضارة أو مجتمعات بشرية واعية ومستنيرة. وطالما أن هذه الأفكار تعزز الفقر والبطالة والتجاوزات الأخلاقية والفوضى والغطرسة والعنف، إذن، فلتذهب نساء هذه الدول إلى الجحيم، لتبقى المنطقة غارقة في وحل رعبها وتخلفها ورداءة قيمها وفكرها وظلامها إلى أبد الآبدين.
أما السؤال الجوهري، لماذا يتم التعامل مع حقوق النساء كأنها قضية منفصلة عن حقوق الإنسان؟ وإذا ما تم النقاش في القوانين غير العادلة بحقهن، أو البرمجيات الفكرية الثقافية التي تحد من دورهن ووجودهن، يتم وضع الأمور في إطار مسميات ملغومة واتهامات جاهزة كـ”نسوية”، مثلا، وكأن مناقشة حق الفئات المستضعفة والتي تعرضت لتهميش أكثر عبر التاريخ، باستخدام العادات والقوانين والدساتير، إثما وجرما وعيبا.
تخيل معي هذا السيناريو: لماذا لا تُناقش حقوق الرجل بالمثل؟ لماذا لا يُسأل الرجل عن حقه في التفكير أو قرارات حياته؟ لماذا لا يُلاحَق الرجل بسلطات “آداب” كما تُلاحق النساء؟
نحن على أبواب 2025، ولا تزال النساء في بعض الدول غير قادرات على تقرير مصيرهن
ولماذا يتم حصر “النهي عن المنكر” في وجود النساء؟ صوتها عورة، أفعالها محط تشكيك، تعبيرها عن أنوثتها إثم، قوتها وقدرتها على القيادة رجولية زائدة. مشاعرها الصادقة الواضحة تجعلها عاطفية، واهتمامها بأحلامها تجعلها صارمة ومعقدة وأنانية. إن شعرت بالإرهاق فهي ضعيفة ونكدية،و إن احتفت بجمالها فالأمر جنح وعار. وإن قالت “لا” بوجه المجتمع وقررت أن تأخذ بزمام حياتها وتقرر مصيرها فهي جريئة وجرأتها وقاحة.
لماذا تُوضع المرأة وحدها تحت المجهر، تُحاسب على كل خياراتها، وكأنها مسؤولة عن تحقيق معايير المجتمع بينما لا يخضع الرجال لنفس الأحكام؟
لماذا المرأة وحدها بخياراتها وقدرها وتقرير مصير حياتها محل نقاشات عامة وأحكام مجتمعية عالمية؟
تخيّل معي، أن تكون تحت المجهر طوال الوقت؛ كلامك وأفعالك وصوتك وآراؤك وقرارات حياتك معرضة للنقد وإطلاق الأحكام أمام العامة. تخيل معي، أن يسهل استباحة كينونتك.
المرأة ليست كائنًا ناقصًا؛ وإن كنت تظن ذلك، أليس من المعيب أن تنعت من وهبتك الحياة بالناقصة؟ هي إنسان، ولها الحق الكامل في التفكير والعمل واختيار حياتها، أن تضع قوانين تحميها وتحمي حقوقها، باختياراتها. قادرة على العمل على قدراتها ومواهبها والوصول أينما أرادت.. أن تكون “مهندسة.. قاضية.. طيّارة.. فنانة.. صحافية.. عالمة.. أو ربة منزل،” هذا قرارها وحدها أن ترسم هويتها الشخصية وتقرر كيف تعبّر عن ذاتها ومن تريد أن تكون. لذا من حقها أن تتحلى بحقوق طبيعية في الحركة، التنقل، التعليم والعمل، والمحافظة على صحتها الجسدية والنفسية والعقلية. لا أحد وليّ على أحد.. ولا أحد قوّام على أحد. إن نهضة المجتمعات لا تكون إلا مع المرأة، المجتمعات التي تعطل هذه الطاقات هي مجتمعات مشلولة غير قادرة على النهوض.
أما الحل، فيحتاج إلى عمل طويل وحثيث. لن تتحرر النساء إلا عندما يقررن ذلك، ولن تنهض المجتمعات إلا بدعم الرجال الواعين بهذه القضية. التغيير يبدأ بالتعليم، وبنشر الوعي حول حقوق الإنسان، بتصحيح المسار الفكري والقيمي والثقافي للمجتمعات. العمل على البنية الأخلاقية للمجتمعات البشرية مهمّ جدًا، من خلال المدارس، المؤسسات الثقافية، وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ومن الضروري والمهم الوقوف في وجه كل منظومة تُكرّس الظلم والقهر. لأنه من المهم أن نصل يومًا ما إلى مجتمعات لا تحتاج النساء أن يثبتن أحقيتهن في الحياة لمجرد أنهن “نساء”!
اترك تعليقاً