يتعين على ترامب الذي يريد إنهاء الحرب بين إسرائيل وحماس حتى قبل أن يستأنف الرئاسة أن يدرك أن إنكار حق الفلسطينيين في إقامة دولة والتنازل عن المزيد من الأراضي الفلسطينية لإسرائيل هي وصفة للجحيم المروع القادم الذي سيطغى حتى على الحرب الكارثية الحالية بين إسرائيل وحماس.
لقد أدى الهجوم المروع الذي شنّته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول والحرب الإنتقامية الضخمة التي شنّتها إسرائيل إلى تغيير ديناميكيات الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بشكل جذري. لقد نشأت ظروف إقليمية سياسية ونفسية وواقعية جديدة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول لا يمكن تجاهلها، لأنها أثرت بشكل مباشر ليس فقط على العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية لجيل كامل بل وأيضاً على الإستقرار الإقليمي. وسيتعين على ترامب أن يختار بين تمهيد الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية أو تهيئة المسرح للحريق الكارثي القادم الذي سيقزم الحرب الحالية.
يتعين على ترامب أن يأخذ بعين الإعتبار التغييرات الخمسة التالية الحاسمة في الديناميكيات الإقليمية إذا كان يريد إحياء “صفقة القرن”، مهما بدت تلك بعيدة في هذه المرحلة بالذات.
مذبحة حماس وتداعياتها النفسية
من الصعب المبالغة في تقدير التداعيات النفسية لهجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023على الإسرائيليين حيث أعاد إلى الأذهان صور المحرقة. فقد أكد الهجوم من نواح عديدة الرواية العامة المضللة التي تبنّاها نتنياهو على مدى عقدين من الزمان، وعزز العقلية العامة السائدة بأن الفلسطينيين يشكلون تهديدًا وجوديًا دائمًا لإسرائيل. وبالتالي، فإن أي جهد قد يؤدي إلى حلّ الدولتين سيواجه مقاومة إسرائيلية عنيفة التي يمكن تخفيفها بمجرد أن يتقبّل الإسرائيليون حقيقة مفادها أن أمنهم الوطني النهائي يعتمد على إقامة دولة فلسطينية. ويجب ربط هذا بقوة بترتيبات أمنية شاملة لتخفيف المخاوف الأمنية الوطنية المتأصلة نفسيا لدى الإسرائيليين.
الإدراك المتبادل بأن أياً منهما لا يستطيع تدمير الآخر
فشل الجانبان بعد 14 شهراً من الحرب الوحشية في تحقيق هدفهما المعلن. وحتى لو أسرت إسرائيل أو قتلت كل مقاتل من حماس، فلن تتمكن من تصفيتها كحركة وطنية وكفكرة. ستنجو حماس من أي خسائر وستواصل إرهاب إسرائيل مهما استغرق ذلك من وقت حتّى وإن كانت تعلم أن إسرائيل قوة عسكرية هائلة تتجاوز بكثير قدرتها على التدمير. لقد غيّر هذا الإدراك المتبادل الديناميكية. فعلى الرغم من القضاء عليها تقريبًا، فقد حققت حماس هدفها إلى حد كبير. لقد هزّت الوضع الراهن بشكل أساسي، مما جعل من الواضح بشكل لا لبس فيه أن القضية الفلسطينية لن يتم تجاهلها بعد الآن.
دور المملكة العربية السعودية
قبل السابع من أكتوبر كانت الولايات المتحدة تتفاوض على التطبيع الإسرائيلي – السعودي. كان السعوديون في ذلك الوقت على استعداد للإكتفاء بالتزام غامض من جانب إسرائيل “بإحراز تقدم كبير نحو حلّ للصراع الفلسطيني”. ولكن مع تطوّر رعب الحرب في غزة، غيّر السعوديون موقفهم، ويرجع ذلك أساسًا إلى صرخة الجمهور بشأن ما تحمله الفلسطينيون بشكل مأساوي.
صرّح وليّ العهد محمد بن سلمان علنًا بأن ” المملكة لن تتوقف عن جهودها الدؤوبة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ونؤكد أن المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك” [التأكيد مضاف]. وتجدر الإشارة إلى أن هذا البيان ليس موقفًا سياسيًا. لن تكتفي المملكة العربية السعودية بعد الآن بإشارة غامضة إلى حقّ الفلسطينيين في إقامة دولة، لكن محمد بن سلمان يمكنه الضغط على الفلسطينيين لتعديل موقفهم.
خوف الأردن المتزايد
يواجه الأردن تحديات كبيرة في الحفاظ على الإستقرار الداخلي وسط الغضب الشعبي المتزايد تجاه إسرائيل. ويجب عليه أن يوازن بين التزاماته التاريخية تجاه القضية الفلسطينية ومعاهدة السلام مع إسرائيل، في حين عليه أن يتعامل مع ديناميكيات إقليمية معقدة. وهناك أيضا مخاوف من امتداد اللاجئين الفلسطينيين إلى الأردن، وهو ما قد يؤدي إلى زعزعة إستقرار الأردن، وخاصة إذا ضمت إسرائيل المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. ومؤخرا أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش أن “عام 2025 هو عام السيادة في يهودا والسامرة”، وهو ما يثير الرعب في المملكة.
كما يمكن أن تؤدي الصراعات الجارية إلى زيادة النشاط المسلح وتفاقم نقاط الضعف القائمة، وخاصة بين الشباب الأردني. وعلاوة على ذلك، تعمل ديناميكيات إقليمية أخرى على تعقيد موقف الأردن، مما يضطره إلى التعامل مع التهديدات من وكلاء إيران في حين يدير علاقاته مع إسرائيل والحلفاء الغربيين والدول العربية المجاورة. إن إنشاء دولة فلسطينية من شأنه أن يمنع عدم الإستقرار في الأردن، وهو أمر بالغ الأهمية للأمن القومي الإسرائيلي.
الإعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية
لقد اعترفت مائة وستة وأربعون دولة بالدولة الفلسطينية، وهي خطوة مهمة لأنها تضفي الشرعية على حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم وتضع فلسطين على قدم المساواة مع الدول الأخرى. لقد اعترفت ثلاث دول من أوروبا الغربية، أيرلندا والنرويج وإسبانيا، بفلسطين هذا العام، وهو ما قد يشجع دولاً أخرى على أن تحذو حذوها. ومما لا شك فيه أن الفلسطينيين حققوا تقدماً دولياً كبيراً في دعم إقامة الدولة الفلسطينية.
ترامب يواجه فرصة تاريخية
ربما يكون ترامب في أفضل وضع لبدء عملية سلام حقيقية تؤدي في نهاية المطاف إلى إقامة دولة فلسطينية. ونظراً لالتزامه بأمن إسرائيل، فلا ينبغي له أن يسمح لإسرائيل بضم المزيد من الأراضي في الضفة الغربية أو إعادة التوطين في غزة، لأن هذا لن يؤدي إلا إلى تمهيد الطريق لانفجار مروع آخر وإلقاء المنطقة بأكملها في حالة من الاضطراب غير المسبوق. ونظراً للتقارب الذي يكنّه معظم الإسرائيليين لترامب، فهو في موقف أقوى كثيراً من العديد من أسلافه، ليس فقط للدعوة إلى حلّ الدولتين بل وللعمل على تنفيذه.
إن العمل نحو إقامة الدولة الفلسطينية من شأنه أن يخفّف بشكل كبير من القلق العميق الذي يشعر به الأردن بشأن استقرار البلاد، ويلبي مطالب السعوديين بإنشاء دولة فلسطينية كشرط مسبق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ويعطي الأمل للفلسطينيين في أن يوم خلاصهم قريب، ويخفف من حدة التطرف والمشاعر المعادية لإسرائيل. إن انهيار نظام الأسد في سوريا والضعف الشديد الذي لحق بإيران وحزب الله من شأنه أن يحرمهم من استغلال الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني لتعزيز أجنداتهم الإقليمية.
إن العقبة الأكبر التي سيواجهها ترامب هي الحكومة الإسرائيلية الحالية التي أقسمت على منع إنشاء دولة فلسطينية. لم تتعلم هذه الحكومة شيئا من عقود من الإحتلال. فهي تريد الآن ضم جزء كبير من الضفة الغربية وإعادة توطين غزة وإغراق إسرائيل في العنف والدمار الذي لا نهاية له. ولا يوجد شيء أكثر شؤما بالنسبة لإسرائيل إذا نفّذت الحكومة مثل هذه الخطة بالفعل. سوف تحطم هذه الخطة آخر بصيص أمل للفلسطينيين لأنها سوف تؤدي إلى عواقب مروعة ما لم يمنع ترامب حدوثها.
ولكي يتمكن ترامب من إحياء “صفقة القرن”، فسوف يتعيّن عليه أن يتجاوز نتنياهو ويخاطب الجمهور الإسرائيلي مباشرة، مشيرًا إلى الواقع الصارخ الذي لا يزال الإسرائيليون يتجاهلونه. وينبغي له أن يؤكد على ما يلي من حقائق:
أصبح من الواضح تماما بعد 57 عاما من الإحتلال أن الإحتلال غير مستدام، ويتضح ذلك من حقيقة أن العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية اليوم أسوأ من أي وقت مضى. ومن المؤكد أن الوضع سينفجر مرارا وتكرارا مع زيادة الموت والدمار.
يعيش ما يقرب من سبعة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وغزة وإسرائيل نفسها، وهو ما يعادل عدد اليهود الذين يعيشون في نفس المنطقة. فبأي وسيلة وإلى متى، يجب أن يسأل ترامب نفسه، يمكن لإسرائيل أن تضطهد الفلسطينيين بنفس عدد السكان على كلا الجانبين دون نهاية في الأفق؟
ولد تسعون في المائة من جميع الفلسطينيين تحت الإحتلال؛ وهؤلاء سوف يحرمون إسرائيل من السلام حتى يحرروا أنفسهم من قيود الإحتلال الذي نزع عنهم إنسانيتهم وسلبهم كرامتهم.
التعايش ليس أحد الخيارات العديدة؛ إنه الخيار الوحيد. يجب على الإسرائيليين أن يختاروا إما العيش في سلام أو الحفاظ على حالة من العداء المستمر بينما يسمّمون جيلا بعد جيل ضد الفلسطينيين.
الخلاصة:
يواجه ترامب فرصة تاريخية. إنه قادر على إرساء الأساس لدولة فلسطينية أو تهيئة المسرح للحرب الكارثية المقبلة. وتعيينه لفريق داعم لإسرائيل على نحو غير عادي يمنحه المجال والمصداقية لإقناع الإسرائيليين بأن حلّ الدولتين فقط هو الذي يوفر لهم السلام والأمن، وتوفّر “صفقة القرن” الإطار اللازم لتحقيق هذه الغاية.
اترك تعليقاً