بقلم د. ميرفت السلامين.
لطالما كانت مدينة البتراء رمزاً للسياحة في الأردن، وكانت السياحة هي العمود الفقري للاقتصاد المحلي في لواء البتراء، معتمدة بشكل شبه كلي على تدفق السياح من مختلف أنحاء العالم، لكن مع كل أزمة سياسية أو اقتصادية يتضح أن هذا الاعتماد المطلق على السياحة يجعل لواء البتراء من أكثر المناطق تضرراً بعد أحداث غزة كما نشهده الآن، ولكن وفي ظل الأزمات المتكررة، بات من المشروع التساؤل: هل البتراء نعمة أم نقمة؟
اليوم، وبعد إغلاق أكثر من 28 منشأة سياحية وتسريح أكثر من 350 موظفاً، دخلت المنطقة في أزمة معقدة، وأصبح لدينا ظاهرتين اجتماعيتين مترابطتان مع بعضهما البعض وهما وجهان لعملة واحدة (الفقر والبطالة)، فأصبح لدينا العديد من العائلات التي تعاني من انقطاع مصدر دخلها بشكل كامل، هذه ليست مجرد أرقام، بل واقع مرير ينعكس على حياة الناس في اللواء، حيث لم يعد البعض قادراً على تأمين احتياجاته الأساسية، كتوفير الطعام لأطفاله وصولاً إلى عدم مقدرتهم على دفع فواتير الكهرباء؛ وشركة الكهرباء باللواء شاهد على ذلك….
الفقر والبطالة لا يقتصران على كونهما مشكلتين اقتصاديتين، بل هما قنابل اجتماعية موقوتة تؤثر على استقرار الأسر في اللواء، ومع تفاقم الأزمة، زادت المشاكل الأسرية، وبدأ التوتر والعنف الأسري في الظهور…..
إن فقدان الوظائف ليس مجرد رقم على الورق، بل هو تحدٍّ إنساني واجتماعي يؤثر بشكل مباشر على حياة مئات العائلات في لواء البتراء التي تعتمد على السياحة كمصدر وحيد للدخل…..
والكارثة الأكبر أن معظم هؤلاء العاملين في السياحة والذي تم تسريحهم هم أرباب أسر، مما يعني أن مئات الأطفال أصبحوا اليوم يعيشون في ظروف قاسية وصعبة، دون أي مورد مالي يضمن لهم حياة كريمة….
إن مشكلتي الفقر والبطالة أدتا إلى تفكك الأسر، بحيث ازدادت المشاكل الأسرية نتيجة الضغوط النفسية والمالية المتراكمة….
ونتيجة لذلك، نشهد ازدياداً في الخلافات الزوجية، والتي وصلت في بعض الحالات إلى الطلاق، ومن بين هذه الحالات التي قابلتها إحدى النساء قالت لي بصريح العبارة:
“إذا دخل الفقر من الباب، الحب بيهرب من الشباك، وهيني تطلقت.”
إنها ليست مجرد قصة فردية، بل حالة تتكرر في كثير من البيوت، حيث أصبح التوتر والعنف الأسري والانفصال نتائج طبيعية للضغوط الاقتصادية الخانقة…
ولا ننسى أصحاب المنشآت السياحية في لواء البتراء يواجهون أزمة حقيقية تهدد مستقبلهم المالي والاجتماعي، إذا لم يتم إيجاد حلول بديلة وتنويع الاقتصاد المحلي، فإن الأضرار لن تقتصر على القطاع السياحي فقط، بل ستمتد لتؤثر على المجتمع المحلي بالكامل..
أصبح العديد منهم عاجزين عن سداد القروض البنكية، مما جعلهم عرضة للملاحقات القانونية، وتراكم فواتير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، وأصبح العديد منهم مهدداً بقطع هذه الخدمات…
وبسبب خسائرهم المالية وضياع مصدر الدخل أثر على صحتهم النفسية، مما أدى إلى ازدياد الخلافات الأسرية نتيجة هذه الضغوط الأقتصادية…
هذه الحالة التي عليها مجتمع لواء البتراء الحالي هي عبارة صرخة استغاثة من مجتمع يعاني، فلا حياة في لواء البتراء، والناس باتت تحمل في أعينها نظرة الحزن والإحباط وتسودها الكآبة….
حتى القطاعات الأخرى مثل النقل والمحلات التجارية، المطاعم، والأسواق أصيبت بالشلل التام، مما تسبب في ركود اقتصادي غير مسبوق، لأن كل شيء مرتبط بالسياحة، وعندما تتعطل، تتوقف عجلة الحياة في المنطقة بالكامل….
وبصفتي كأخصائية اجتماعية، أرى أن الحل ليس في انتظار عودة السياحة، بل في إيجاد بدائل اقتصادية حقيقية تساعد السكان على مواجهة الأزمات؛ فنحن بحاجة إلى:
١- إنشاء مصانع إنتاجية توفر وظائف دائمة ومستقرة.
٢- دعم المشاريع التنموية التي تخلق فرص عمل محلية، مثل الصناعات الحرفية والزراعية.
٣- التعاون مع الحكومة لتمويل مشاريع صغيرة تدعم الأسر المنتجة.
٤- إعادة النظر في السياسات الاقتصادية التي تجعل اللواء يعتمد فقط على السياحة.
٥- التوسع في قطاع التكنولوجيا، من خلال تعزيز العمل عن بُعد ودعم الشباب لتطوير مهاراتهم في البرمجة والتسويق الإلكتروني، من خلال تدريبهم على مهارات رقمية مما يتيح لهم فرص عمل عن بُعد، غير مرتبطة بالواقع الاقتصادي المحلي.
٦- إطلاق مبادرات حكومية لدعم الأسر المتضررة، من خلال منح وقروض ميسرة لإنشاء مشاريع مستقلة….
لقد تعلمنا دروس قاسية من الأزمات الماضية (كورونا ويليها أحداث غزة)، وآن الأوان لاتخاذ قرارات مصيرية تعيد التوازن الاقتصادي للواء البترا، لا يمكننا أن نعيش دائماً تحت تهديد انهيار السياحة، بل يجب أن نعمل على خلق اقتصاد أكثر استقراراً يضمن لأهل البترا حياة كريمة، بغض النظر عن الظروف السياسية المحيطة….
البتراء نعمة عظيمة، لكنها ستظل نقمة إذا بقي اقتصادها محصوراً في السياحة فقط، آن الأوان للتفكير في بدائل حقيقية ومستدامة تضمن لأهل البتراء حياة كريمة بغض النظر عن الأوضاع السياسية، فهل سيستجيب أصحاب القرار لهذه المطالب قبل أن تتفاقم الأزمة أكثر؟؟؟….
وكل ما أتمناه من نشامى ونشميات أهل اللواء بهذا الشهر الفضيل شهر الخير والبركة، هو أن نتذكر بأن الصدقة وجبر الخواطر هي من أعظم العبادات في شهرنا هذا ، اليوم أصبح لدينا عائلات عفيفة تعاني وبصمت، ولاتسأل الناس ولا تطلب المساعدة، ولكنها بحاجة إلى وقفة إنسانية من الجميع، علينا أن نتفقد جيراننا وأقاربنا، ونمد يد العون لهم ولمن فقدوا وظائفهم ومصدر رزقهم…
اترك تعليقاً