الشاعر أحمد طناش شطناوي
رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين/ إربدفي ظل تصاعد العولمة وتزايد الخطابات الهوياتية الضيقة، يواجه الأردن تحديًا ثقافيًا مصيريًا يتمثل في كيفية ترسيخ هويته الوطنية دون الانزلاق إلى العزلة أو التبعية، فالمشهد الثقافي اليوم يشهد تراجعًا أمام طغيان الثقافة الاستهلاكية، مما يستدعي مشروعًا ثقافيًا وطنيًا يعيد تعريف الهوية الأردنية ضمن رؤية متجددة، توازن بين التراث والحداثة، وتفتح المجال للإبداع والابتكار دون أن تفقد أصالتها وجذورها التاريخية.الهوية الوطنية ليست شعارًا ثابتًا ولا ميراثًا جامدًا، بل هي كيان حي يتجدد باستمرار وفق التحولات المجتمعية والثقافية، ولهذا فإن المشروع الثقافي الوطني يجب أن يكون إطارًا جامعًا، يعزز المواطنة المتساوية، ويجعل الثقافة عنصرًا أساسيًا في التنمية، بدلًا من أن تكون مجرد نشاط نخبوي منعزل عن الواقع، فلا يمكن للهوية الوطنية أن تكون حكرًا على فئة دون أخرى، بل يجب أن تكون عقدًا اجتماعيًا يربط الجميع في إطار من التنوع الذي يثري المشهد الثقافي ويمنحه قوة حقيقية.إن أي مشروع ثقافي وطني لا يمكن أن ينجح دون تحقيق التوازن بين التراث والحداثة، فلا يمكن للهوية أن تبقى أسيرة الماضي، ولا أن تذوب في الحداثة المطلقة، والمطلوب هو إعادة قراءة الموروث الثقافي الأردني برؤية نقدية، وتقديمه بصيغة متجددة عبر تطوير الفنون، وإحياء الحرف التراثية، واستثمار التكنولوجيا الحديثة في صناعة المحتوى الثقافي، بحيث يصبح التراث عنصرًا تفاعليًا وليس مجرد مادة أرشيفية صامتة، ومن هنا فإن التحدي الحقيقي يتمثل في تحويل الثقافة من حالة استهلاكية إلى حالة إنتاجية، من خلال دعم الصناعات الثقافية والإبداعية، وتشجيع الشباب على الإسهام في تشكيل هوية وطنية متجددة عبر الفنون، والأدب، والإعلام الرقمي.ومع ذلك، فإن الإشكالية الكبرى التي تواجه المشروع الثقافي الوطني هي البيروقراطية الثقافية، حيث يظل المشهد الثقافي محصورًا في إجراءات إدارية معقدة وهيمنة بيروقراطية تعيق الإبداع وتحد من انفتاح المؤسسات الثقافية على المجتمع. فبدلًا من أن تكون الثقافة مجالًا حيويًا للنقاش والتجديد، تتحول في كثير من الأحيان إلى نشاط رسمي خاضع للرقابة المفرطة، مما يؤدي إلى جمود الإنتاج الثقافي، وضعف الحوافز للمبدعين، وغياب المبادرات المستقلة. لهذا، فإن إعادة هيكلة الإدارة الثقافية أمر ضروري، بحيث تصبح المؤسسات الثقافية أكثر مرونة، وأكثر قدرة على الاستجابة لاحتياجات المجتمع، من خلال دعم الفعاليات المستقلة، وتخفيف القيود الإدارية، وإفساح المجال لمبادرات ثقافية تنطلق من القاعدة الشعبية بدلاً من أن تفرض من الأعلى.ومن المؤكد أننا بحاجة إلى تفعيل وتحفيز القطاع الخاص للمشاركة في دعم ونهضة المشهد الثقافي، فالمؤسسات الثقافية تعاني من إحجام القطاع الخاص عن دعم النشاطات الثقافية ورعايتها، مما يشكل عبئًا على هذه المؤسسات ويجعلها تتوقف عن أنشطتها بسبب محدودية الدعم. إن مشاركة القطاع الخاص في تمويل ودعم الفعاليات الثقافية والفنية يمكن أن يكون له تأثير كبير في تعزيز استدامة الأنشطة الثقافية، ويمنحها القدرة على الاستمرار والنمو. كما أن هذا التعاون يمكن أن يساهم في خلق بيئة ثقافية ديناميكية تتيح للمؤسسات الثقافية والمبدعين فرصًا أكبر للتوسع والنمو.وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال دور الدولة في ترسيخ السيادة الثقافية، فالمشروع الثقافي ليس مجرد مبادرات متناثرة، بل هو جزء من منظومة تعزز الاستقلال الوطني، وتحمي المجتمع من التفكك تحت تأثير الانقسامات الهوياتية أو التدخلات الخارجية، فالهوية الوطنية لا تُصنع فقط عبر المناهج الدراسية أو الفعاليات الثقافية، بل عبر سياسات ثقافية شاملة تعزز الانتماء للدولة وتحصّنها من التيارات الفكرية التي تهدد استقرارها، فالحاجة إلى مشروع ثقافي وطني ليست ترفًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان الأمن الثقافي والاجتماعي للدولة.ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف نبدأ؟ إن بناء مشروع ثقافي وطني لا يمكن أن يكون مسؤولية الدولة وحدها، بل هو جهد جماعي يتطلب تفعيل المؤسسات الثقافية، وإطلاق حوار وطني يضم المثقفين والمفكرين والشباب لوضع رؤية واضحة، كما يتطلب إصلاح التعليم والإعلام ليكونا أدوات حقيقية في بناء الوعي الثقافي، فبدون تعليم يعزز الفكر النقدي وإعلام يرسّخ الهوية الوطنية، سيبقى المشروع الثقافي معلقًا في الفراغ، ومن الضروري أيضًا دعم الصناعات الثقافية والإبداعية، بحيث تصبح جزءًا من الاقتصاد الوطني، وتشجيع المبادرات الشبابية الثقافية عبر منح حكومية أو شراكات مع القطاع الخاص، وإطلاق منصات رقمية توثق الإرث الثقافي الأردني بطرق حديثة.إن المشروع الثقافي الوطني ليس مجرد رؤية نظرية، بل هو المسار الفعلي لبناء مجتمع متماسك ودولة قوية، حيث تصبح الهوية الوطنية ديناميكية، جامعة، متوازنة، منتجة، سيادية، ومنفتحة على العالم دون أن تفقد جوهرها، فإذا أردنا أن نؤسس لنهضة ثقافية حقيقية، فعلينا أن ندرك أن الثقافة ليست نشاطًا هامشيًا، بل هي روح الدولة وعنوان قوتها الحضارية.
اترك تعليقاً