إن خيانة ترامب للمُثُل والقيم التي تبنّتها أمريكا وجعلتها أمة لا تُضاهى أمرٌ مأساوي. على كل جمهوري ذي ضمير أن ينهض ويضع أمريكا في المقام الأول، فوق مجرم وحزب، قبل فوات الأوان.
تبنت أمريكا منذ نشأتها مُثُلًا وقيمًا وقامت بنشرها، الأمر الذي جعلها أمة عظيمة وفريدة. ويتميّز تفرّد أمريكا بسعيها الدؤوب إلى الحريّة والإستقلال الفردي وتكافؤ الفرص والحكم الذاتي والديمقراطية والتنوع والشمول والعدالة وسيادة القانون والإبتكار والفردية والإعتماد على الذات والوطنية والواجب المدني. وعلى الرغم من أن هذه المُثُل السياسية والقيم الأخلاقية قد وجّهت أمريكا منذ نشأتها، إلا أن ملايين الأمريكيين تُركوا خلف الرّكب، يعانون من الفقر وعدم المساواة والظلم وانعدام الفرص.
ومع ذلك، ظلّ الحلم الأمريكي، وهو مفهومٌ راسخٌ في الوعي الوطني، صاغه المؤرخ جيمس تروسلو آدامز خلال فترة الكساد الكبير في كتابه “ملحمة أمريكا” الصادر عام 1931 مصدر إلهامٍ للشعوب من قريبٍ وبعيد. لقد تصوّر آدامز الحلم الأمريكي كطموحٍ جماعيٍّ لمجتمعٍ يُمكّن الأفراد من تحقيق أقصى إمكاناتهم بغضّ النظر عن أصلهم أو ظروفهم. ورغم تطوّر هذا المثل الأعلى، إلاّ أن وعده الجوهري – الفرص والمساواة والعدالة – لا يزال سمةً مُميّزةً للهوية الأمريكية.
وما جعل أمريكا عظيمةً لم يكن أن هذه المثل والقيم كانت حكرًا على الأمريكيين فحسب، بل لأنه رُوّج لها عالميًا من خلال استثمار رأس المال السياسي والمالي لتحسين حياة ملايين البشر وإنقاذهم من الفقر والمرض، مع الدعوة إلى الديمقراطية لتعزيز الحرية والمساواة من أجل تحسين أحوال البشرية، بما في ذلك:
برامج المساعدات الخارجية ودعم الديمقراطية، بما في ذلك 43.79 مليار دولار صُرفت عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ((USAID للتخفيف من حدّة الفقر والدعم الإنتخابي وتعزيز المجتمع المدني. مبادرات الدبلوماسية العامة والتبادل الثقافي لتعزيز التفاهم بين الثقافات، مما يخفف غالبًا من حدة النزاعات. التحالفات العسكرية القائمة على أساس القيم المشتركة، وخاصة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي شكّل حجر الأساس للأمن الأمريكي – الأوروبي.
بناء القدرات الديمقراطية من خلال الشراكات مع الحكومات الأجنبية ومنظمات المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان، وتعزيز الهيئات التشريعية الحرة والدساتير التي تحترم الحقوق. منح تمكين المجتمع المدني، مثل الصندوق الوطني للديمقراطية التي تدعم النشطاء في الأنظمة القمعية وتشجّع المنظمات غير الحكومية المستقلة والنقابات العمالية ووسائل الإعلام المستقلة. التواصل الإعلامي من خلال الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي، بما في ذلك صوت أمريكا وإذاعة آسيا الحرة التي تبث بـ 64 لغة لمواجهة السرديات الإستبدادية وتصل إلى 427 مليون شخص أسبوعيًا. هذه البرامج مجتمعة جعلت أمريكا دولة لا مثيل لها ذات نفوذ وقوة عالمية غير مسبوقة. نادرًا ما تتخذ أي دولة قرارًا مهمًا يتعلق بالخارج دون مراعاة رد فعل أمريكا.
ورث ترامب هذه القوة الهائلة. وبدلاً من البناء على نفوذ أمريكا العسكري والإقتصادي والثقافي والتكنولوجي العالمي الفائق، نصّب نفسه إمبراطورًا، يتصرف وفق أهوائه، دون مراعاة دقيقة أو قيم أخلاقية، خائنًا بذلك العقد الإجتماعي لأمريكا ومكانتها العالمية.
ضرر لا مثيل له
ألحقت الأسابيع الثمانية الأولى من ولاية ترامب ضررًا بالغًا فريدًا من نوعه بسبب أفعاله متعددة الأبعاد، وسرعتها واحتمالية عدم رجوعها. هجومه المركّز على المؤسسات والتحالفات والأعراف الديمقراطية لا مثيل له في الحجم. وقد يتجاوز بكثير إجمالي الأذى والجرائم والفساد والجنح التي ارتكبها جميع أسلافه.
محليًا
في يومه الأول في منصبه، أصدر ترامب عفوًا كاملاً عن 1500 فرد مُدان بجرائم تتعلق بتمرد 6 يناير/كانون الثاني 2021 الذي حرّض عليه. لم يجرؤ أي جمهوري على التشكيك في فعله المُقلق، الذي لا يقل عن كونه خيانة. لقد ظلّوا صامتين تماماً عندما وقع على أمر يحرّم الأطفال المولودين في الولايات المتحدة للمهاجرين غير المسجلين أو أولئك الذين يحملون تأشيرات مؤقتة من الجنسية، مما يجعل الأطفال عرضة للترحيل وربما يتركهم بدون جنسية.
تجلّى تعصّب الحزب الجمهوري بوضوح تام عندما لم يحرّك أي مشرع ساكنًا عندما فرض ترامب على الوكالات الفيدرالية تصنيف الأفراد بدقة على أنهم “ذكور” أو “إناث” بناءً على جنسهم البيولوجي، مما حدّ من الوصول إلى الرعاية التي تؤكد النوع الاجتماعي في إطار البرامج الفيدرالية. علاوة على ذلك، أنهى جميع مبادرات “التنوّع، المساواة والإندماج” (DEI) الفيدرالية، زاعمًا أنها تعزز “التمييز العكسي”، مما أدى إلى تفاقم أوجه عدم المساواة النظامية مع تعليق معالجة طلبات اللجوء وانتهاك القانون الدولي للاجئين. وكما هو معتاد في لامبالاتهم تجاه المحتاجين، لم يعترض أي جمهوري من أي مكانة على وقف ترامب للإنفاق التقديري عبر الوكالات، مما أدى إلى شلّ الخدمات العامة والتسبب في اضطرابات فوضوية في الرعاية الصحية والإغاثة من الكوارث.
لقد أدى خطاب ترامب وسياساته إلى تفاقم التوتّرات العرقية والإثنية، مما أدى إلى انقسامات داخل المجتمعات وتمزيق النسيج الإجتماعي الأمريكي. لقد أثّرت أوامره القاسية بشأن الهجرة سلبًا على التفرد الإجتماعي لأمريكا كأرض للمهاجرين، والتي لطالما كانت حجر الزاوية في الهوية الأمريكية وقوتها، ويمكن أن يكون لها آثار دائمة على المجتمع والاقتصاد والهوية الأمريكية.
العلاقات الخارجية
سرّع ترامب من تآكل مكانة أمريكا وقيمها العالمية وأبعد الشركاء الدوليين، مما شكّل تحديًا وجوديًا لدور أمريكا المحوري على الساحة الدولية. انسحب ترامب من منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ، مما ستكون له عواقب وخيمة على الأوبئة وأهداف انبعاثات الكربون. كما فرض تعليقًا لمدة 90 يومًا على 60 مليار دولار من المساعدات الخارجية وعلّق برامج حيوية، بما في ذلك مبادرات صحة الأم ومشاريع التكيّف مع المناخ وخفّض عقود المساعدات الخارجية للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بنسبة 90%، بينما خفّض 340 مليون دولار سنويًا من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللآجئين الفلسطينيين (الأونروا)، مما أدى إلى تفاقم المجاعة في غزة. كما أمر بمراجعة جميع المعاهدات التي صادقت عليها الولايات المتحدة، مستهدفًا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR) واتفاقية مناهضة التعذيب، مما هدد بتفكيك عقود من المساءلة في مجال حقوق الإنسان.
لقد أذلّ الرئيس الأوكراني زيلينسكي وحطّ من قدره في المكتب البيضاوي أمام أعين العالم أجمع – وهو عرضٌ مخز ٍ للغطرسة، بينما انحاز إلى خصم أمريكا اللدود، بوتين الروسي. استنكر القادة الأوروبيون هذا التحوّل باعتباره خيانةً لتضامن الناتو. وفوق كل ذلك، أصدر تعليماته للبعثة الأمريكية بالتصويت ضد قرار الأمم المتحدة الداعي إلى سلام عادل في أوكرانيا، مُشيرًا إلى دعمه للمطالب الإقليمية الروسية – وهو تصويتٌ سيبقى في الذاكرة كوصمة غزي وعار.
فرض ترامب تعسفيًا تعريفاتٍ جمركيةً بنسبة 25% على معظم السلع الكندية والمكسيكية. ورغم تعليقه لها مؤقتًا، إلا أنه ألحق ضررًا بالغًا بأنجح اتفاقية تجارية وأكثرها فائدة بين الدول الثلاث، والتي لم يعد بإمكان كندا والمكسيك اعتبارها أمرًا مسلمًا به. كما انتهك سيادة المكسيك من خلال السماح بعمل عسكري ضد الكارتلات، مما جازف بتصعيد العنف وعسكرة سياسة المخدرات.
ولإضفاء بريقٍ على مخططه الإمبراطوري، يسعى ترامب إلى الإستيلاء على جزيرة غرينلاند واستعادة قناة بنما والسيطرة على غزة وترحيل الفلسطينيين إلى مصر والأردن، وهو ما يُعادل التطهير العرقي. وعلاوة على ذلك، يُريد أن يجعل كندا “الولاية رقم 51”.
على كل جمهوري أن يتساءل: هل نريد التضحية برفاهية هذا البلد العظيم ومكانته العالمية الذي جسّد القدرة البشرية على تحقيق ما لا يُصدّق، لنخدم مجرمًا مُتغطرسًا بعظمة الذات؟
هل نريد تمكين مُدّعي َملكٍ أعمى وواهم لزعزعة الضوابط والتوازنات الديمقراطية المحلية وتقويض دور أمريكا الذي لا غنى عنه في الشؤون الدوليّة ؟
هل نريد دعم رئيسٍ مُستعدٍّ لتجاهل أوامر المحكمة الفيدرالية ودفع البلاد إلى شفا أزمة دستورية؟
هل نريد حكم بلدٍ يُعاني من تدهورٍ مؤسسي وانعدام ثقة دبلوماسية وانقسامات مجتمعية تُشوّه صورة أمريكا إلى حدّ اللاعودة ؟
على كل قائد جمهوري يتمتّع بذرة من النزاهة أن يستيقظ ويوقف ترامب قبل فوات الأوان. وإلا، فإن التدمير الذاتي هو ما ينتظر الحزب الجمهوري، وستُذكر رئاسة ترامب بنهايتها الكارثية.
أما الديمقراطيون فقد دخلوا في غيبوبة منذ انتخاب ترامب. عليهم أن ينهضوا الآن ويرفعوا أصواتهم ويعارضوا ترامب في كل منعطف عندما تنتهك أفعاله الدستور وتخون المثل والقيم الأمريكية. يجب عليهم وضع أجندة وطنية تستجيب لتطلعات جموع الأمريكيين الذين أصبح الحلم الأمريكي بالنسبة لهم مجرد وهم مأساوي. ويواجه الديمقراطيون، مثل نظرائهم الجمهوريين، اختبار الزمن. عليهم أن ينهضوا إلى مستوى التحدي الآن قبل أن تغرب شمس أمريكا.
اترك تعليقاً