في مجتمع يعتمد على الأطباء كحماة للصحة وسبيل للشفاء، يُعد رحيلهم المبكر وهم في ريعان شبابهم وقمة عطائهم خسارة لا تُعوض. في الأردن، بدأت ظاهرة وفاة الأطباء في سن مبكرة تثير القلق، ليس فقط بسبب الفقدان الإنساني، ولكن أيضًا بسبب تأثيرها العميق على النظام الصحي والمجتمع ككل.
هذه الظاهرة تطرح تساؤلات حول الضغوط التي يتعرض لها الأطباء، وخاصة الشباب منهم، وأسباب هذه الوفيات المبكرة، وكيفية حماية هؤلاء الذين يعتنون بصحتنا.فقد شهد الأسبوع الماضي وفاة طبيبين شابين بسبب نوبات قلبية، رحمة الله عليهما. الموت لا يوجع الموتى بل يوجع الأحياء فقد آلمني رحيلهما كما آلمني رحيل من سبقهم.، ما زالت ملامح أحدهما وابتسامته العريضة عالقة في ذهني، فقد زارني في نقابة الأطباء عندما كنت أقوم بأعمال نقيب الأطباء قبل عامين. كان يشكو من كثرة أيام المناوبات المطلوبة منه كطبيب مقيم ، كان يشكو من اعباء كثيرة. حاولت أنذاك مع مسؤوليه تقليل هذه الأعباء، ولكن دون جدوى. كما حاولت مع ثلاثة وزراء صحة ممن تولو حقيبة الوزارة في تلك الحقبة تنظيم برامج تدريب المقيمين في القطاعين العام والخاص، ولكن جميع المحاولات باءت بالفشل. وبقيت النتيجة نفسها: أطباء شباب يرحلون مبكرًا.في السنوات الأخيرة ، لاحظ المجتمع الطبي في الأردن زيادة في حالات وفاة الأطباء في سن مبكرة، غالبًا بسبب أمراض القلب والأوعية الدموية أو الإرهاق الشديد بعد ليلة مناوبة طويله وعصيبة. وفقًا لإحصاءات غير رسمية، فإن العديد من الأطباء الذين توفوا كانوا في أوج عطائهم المهني، مما يجعل هذه الخسائر أكثر إيلامًا. فقد تبين ومن خلال دراسة أجريت في نقابة الاطباء أن المتوسط العام لعمر الاطباء الأردنيين يقل عن العمر المتوقع للأردنيين عند الولادة بنحو أربعة عشر عاما وفي دراسة اخرى اجريت في برييطانيا بينت ان الاطباء من اصول اسيوية يعيشون حوالي عشر سنوات أقل من أقرانهم من اصول أوروبية.الطبيب يبدأ حياته من السنة الدراسية الاخيرة في المدرسة ( التوجيهي) حيث يكون مشروع “طبيب ” يبدأ سباق التنافس الشاق والحارق للاعصاب اذ يتوجب عليه ان يحصل على معدل عالٍ جدًا يضمن له دخول المرحلة الثانية من تنافس حرق الاعصاب في كلية الطب لمدة ست أو سبع سنوات ولا تنتهي رحلته بنيله شهادة الطب الأولى ، بل تبدأ بعدها مراحل أصعب وهي مراحل التخصص، والتي لا تنتهي بعد التخصص بل تبدأ مرحلة التطوير المهني المستمر ومتابعة آخر مستجدات الطب .عقد من الزمن يفقد فيه “مشروع الطبيب ” او الطبيب معنى الحياة الاجتماعية والمناسبات العائلية فقد حدثني أحد الزملاء الاطباء الشباب أنه يعود للمنزل وأطفاله نيام ويخرج اطفاله في الصباح وهو نائم بعد ليلة مناوبة طويلة كما أن البعض قد لا يذكر آخر مرة شارك فيها في مناسبة عائلية، أو حتى مجرد مشاركة عائلية حول مائدة الطعام.من الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، يبرز الإرهاق والضغوط النفسية. يعمل الأطباء في الأردن لساعات طويلة، وفي بعض المؤسسات الصحية لأيام متواصلة دون توقف، خاصة الأطباء المقيمين الذين ينخرطون في برامج الإقامة للتخصص. يعملون في ظروف صعبة مع نقص في الموارد والكوادر الطبية، مما يؤدي إلى تدهور صحتهم الجسدية والنفسية.
الإرهاق المهني، أو ما يعرف بـ “Burnout”، هو رد فعل إجهادي طويل الأمد يتضمن الإرهاق العاطفي، وتبدد الشخصية (عدم التعاطف مع المرضى)، والشعور بانخفاض الإنجاز الشخصي. غالبًا ما يرتبط هذا الإرهاق بأوجه القصور في النظام الصحي والأعباء الإدارية وزيادة متطلبات التنظيم والتكنولوجيا. الإرهاق ليس نتيجة لنقص مرونة الأطباء، بل يرجع إلى الأنظمة التي يعملون فيها.يعاني العديد من الأطباء أيضًا من ضغوط نفسية هائلة بسبب طبيعة عملهم، مثل التعامل مع حالات الطوارئ والمرضى في حالات حرجة او معقدة. ومع ذلك، فإن الدعم النفسي المقدم لهم محدود أو غير موجود. بالإضافة إلى ذلك، يهمل الكثير من الأطباء صحتهم الشخصية مثل إجراء الفحوصات الدورية أو اتباع نمط حياة صحي وبذلك ينطبق عليهم القول الدارج ” باب النجار مخلع ” بسبب انشغالهم برعاية المرضى، مما يجعلهم عرضة للأمراض.كما يعاني الأطباء من ضغوط مالية بسبب الرواتب المنخفضة مقارنة بحجم المسؤوليات التي يتحملونها، مما يزيد من توترهم ويؤثر على صحتهم. رحيل الأطباء في سن مبكرة يعني فقدان خبرات طبية قيمة كان من الممكن أن تساهم في تطوير النظام الصحي.
يؤدي نقص الأطباء إلى زيادة الضغط على الكوادر المتبقية، مما يعرضهم هم أيضًا لخطر الإرهاق والأمراض. مع نقص الأطباء، قد تتأخر الخدمات الطبية المقدمة للمرضى، مما يؤثر سلبًا على جودة الرعاية الصحية.لحل هذه الأزمة، يجب تحسين ظروف العمل من خلال تقليل ساعات العمل الطويلة وتوفير بيئة عمل آمنة وداعمة للأطباء. كما يجب إنشاء برامج دعم نفسي لمساعدتهم على التعامل مع الضغوط اليومية. بالإضافة إلى ذلك، يجب مراجعة الرواتب والمزايا المقدمة للأطباء لتتناسب مع حجم المسؤوليات التي يتحملونها، وتعزيز العمل الجماعي بين الكوادر الطبية لتقليل العبء الفردي على الأطباء.
في إحدى الحوادث المؤلمة، توفي طبيب شاب في الثلاثينيات من عمره بسبب نوبة قلبية مفاجئة بعد أيام من العمل المتواصل في قسم الطوارئ. زملاؤه أكدوا أنه كان يعاني من إرهاق شديد ولكنه لم يشتكِ، بل واصل عمله بحرفية حتى اللحظة الأخيرة. قصص كثيرة تذكرنا بأن الأطباء، رغم دورهم كحماة للصحة، هم بشر يحتاجون إلى الرعاية والدعم.خاتمة الكلام، رحيل الأطباء مبكرًا ليس مجرد خسارة فردية، بل هو إنذار بوجود خلل في النظام الصحي يحتاج إلى معالجة عاجلة. يجب أن نعمل معًا لضمان أن يحصل الأطباء على الرعاية والدعم الذي يحتاجونه، حتى يتمكنوا من الاستمرار في رعايتنا.
الأطباء هم خط الدفاع الأول عن صحتنا، وحمايتهم هي حماية لمستقبلنا الصحي.الأطباء يعتنون بنا، فمن يعتني بهم؟ فلنعمل معًا لضمان أن يحصلوا على الرعاية التي يستحقونها.*امين عام المجلس الصحي السابق
اترك تعليقاً