يمثل ملف التعيينات والترقيات الأكاديمية حجر الأساس في بناء منظومة تعليمية متينة، إذ يفترض أن تستند هذه العمليات إلى معايير الجدارة والكفاءة بعيدًا عن الاعتبارات الشخصية والمصالح الضيقة. إلا أن اختلال هذه المعادلة لصالح النفوذ والعلاقات يُحوِّل المؤسسات الأكاديمية من بيئات للابتكار والمعرفة إلى ساحات تدار بالمجاملات، مما يؤدي إلى تراجع جودة التعليم ويهدد مستقبل الأجيال القادمة.
عندما يفقد التعليم بوصلته
إن منح المناصب الأكاديمية لغير مستحقيها لا يمر دون آثار كارثية، إذ يؤدي إلى تدهور مستوى البحث العلمي، وإضعاف مخرجات التعليم، وتكريس ثقافة الترقية المبنية على الولاء بدل الاستحقاق. كما أن هذه الظاهرة تُنتج بيئة طاردة للكفاءات، حيث يجد أصحاب الفكر والإبداع أنفسهم مهمشين في ظل سطوة العلاقات الشخصية والمحاباة.
وقد أكد جلالة الملك عبدالله الثاني في الورقة النقاشية السابعة على أهمية النزاهة في اختيار القيادات الأكاديمية والتربوية، مشددًا على أن التعليم هو الركيزة الأساسية للتقدم، حيث قال:
“لا بد من إرساء معايير واضحة لاختيار المعلمين وأعضاء الهيئات التدريسية والقيادات التربوية على أسس الجدارة والتميز، بعيدًا عن الواسطة والمحسوبية، لما لذلك من أثر مباشر على جودة التعليم.” (الديوان الملكي الأردني، 2017).
التجاهل.. بداية الانهيار
إن السكوت عن هذه التجاوزات ليس مجرد خطأ إداري، بل هو مسار خطر يقود إلى تآكل الثقة في المؤسسات الأكاديمية، ويفقدها دورها الحقيقي في صناعة العقول. فعندما يصبح التعيين مبنيًا على النفوذ لا على الكفاءة، يتحول الحرم الجامعي إلى بيئة راكدة تفتقر إلى التجديد، مما يجعل مستقبل التعليم العالي عرضة للانحدار المستمر.
وقد أشار جلالة الملك في الورقة النقاشية السادسة إلى أهمية سيادة القانون كضمان للعدالة والمساواة، وهو ما يرتبط مباشرة بضرورة تحقيق النزاهة في قطاع التعليم، حيث قال:
“لا يمكن تحقيق التنمية دون أن يسود القانون جميع مناحي الحياة، فالدولة المدنية عمادها المساواة وتكافؤ الفرص، ولا مجال فيها للمحاباة أو المحسوبية.” (الديوان الملكي الأردني، 2016).
الإصلاح يبدأ بالمحاسبة
لا يمكن الحديث عن تطوير التعليم دون التصدي لهذه الإشكالية بجدية وحزم. فلا بد من تفعيل آليات شفافة لمراقبة عمليات التعيين والترقية، وضمان أن تستند هذه القرارات إلى معايير واضحة تمنح الفرصة لمن يستحقها. فالتعليم العالي ليس امتيازًا يُمنح، بل مسؤولية وطنية تتطلب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
وفي الورقة النقاشية الرابعة، أكد جلالة الملك أن غياب تكافؤ الفرص يؤدي إلى الإحباط المجتمعي، وهو ما ينطبق على قطاع التعليم الذي يجب أن يكون نموذجًا للعدالة والاستحقاق، حيث قال:
“توفير الفرص المتكافئة لكل مواطن، بغض النظر عن خلفيته أو طبقته الاجتماعية، هو الأساس في تحقيق التنمية الشاملة والمواطنة الفاعلة.” (الديوان الملكي الأردني، 2013).
في نهاية المطاف، فإن استمرار هذه التجاوزات يعني السير نحو مستقبل أكاديمي قاتم، حيث تتراكم الأخطاء حتى يصبح إصلاحها شبه مستحيل. وإذا لم يتم وضع حد لهذه الممارسات الآن، فإن المؤسسات التعليمية ستجد نفسها عاجزة عن أداء دورها، وسنقف يومًا على أطلال ما كان يمكن إنقاذه.
الأستاذ الدكتور صلحي الشحاتيت
المراجع:
1. الديوان الملكي الأردني. (2017). الورقة النقاشية السابعة: بناء قدراتنا البشرية وتطوير العملية التعليمية. تم الاسترجاع من https://www.kingabdullah.jo
2. الديوان الملكي الأردني. (2016). الورقة النقاشية السادسة: سيادة القانون أساس الدولة المدنية. تم الاسترجاع من https://www.kingabdullah.jo
3. الديوان الملكي الأردني. (2013). الورقة النقاشية الرابعة: نحو تمكين ديمقراطي ومواطنة فاعلة. تم الاسترجاع من https://www.kingabdullah.jo
اترك تعليقاً