+
أأ
-

جذور وتداعيات هجرة اللاجئين عبر المتوسط

{title}
بلكي الإخباري وليد محمود عبدالناصر

لا يكاد يختلف أحد على مأسوية مشهد مئات الآلاف من العرب الذين يسعون إلى الهجرة، عبر الوسائل غير الشرعية إلى أوروبا، وسقوط الضحايا وتردي أوضاع اللاجئين في المحطات التي يمرون بها في طريق الهجرة الشاق. وتأتي الغالبية الكبرى من هؤلاء الساعين إلى الهجرة من الدول التي تشهد اقتتالاً أهلياً، إضافة إلى أبناء دول عربية أخرى يسعون إلى الحصول على فرص حياة اقتصادية واجتماعية أفضل في ظل الأوضاع المعيشية المتردية في بلدانهم الأصلية.

وبعيداً من تضارب التكهنات في شأن ما إذا كانت تلك الهجرة العربية نحو أوروبا ذات طبيعة دائمة أو موقتة ومرتبطة بتحسن مأمول في المستقبل في أوضاع البلدان التي خرج منها الساعون إلى الهجرة، فإن ذلك المشهد المأسوي أعاد إلى الذاكرة ما أحاط بانطلاق «عملية برشلونة» في العام 1995، وهي العملية التي كان يفترض أن تمهد الطريق بشكل تدريجي نحو تكريس شراكة أوروبية متوسطية شاملة تغطي مجالات عديدة ومتنوعة من بينها قضية الهجرة.

وفي مناسبة مرور عام على إطلاق عملية برشلونة، كنت تلقيت دعوة من معهد الدراسات الأوروبية التابع لجامعة جنيف في صيف عام 1996 للمشاركة كمتحدث في مؤتمر نظمه المعهد حول الشراكة الأوروبية المتوسطية، وكان موضوع الهجرة ضمن الموضوعات المطروحة، وظهر بجلاء من كلمات ومناقشات المشاركين الأوروبيين أن المعادلة في نظرهم تتلخص في أن أوروبا ستقدم المساعدات الى الدول العربية المطلة على البحر المتوسط لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية بغرض تحقيق العديد من الأهداف وفي مقدمها توفير فرص العمل والحد من معدلات البطالة واستيعاب الزيادة السكانية المرتفعة، وذلك مقابل التزام الدول العربية بالحيلولة دون تصدير التطرف الديني والإرهاب من جهة والهجرة من جهة أخرى.

وكان عرض ما سبق ضرورياً حتى يتعرف القارئ على جذور موضوع بات يحتل اهتمام المجتمع الدولي ووسائل الإعلام. فالمنطق الحاكم للمعادلة التي طرحتها الأطراف الأوروبية في منتصف تسعينات القرن العشرين لم يتغير بعد.

ومن العوامل المستجدة في تلك المعادلة هو تضاعف الصراعات المسلحة في العديد من البلدان العربية، بما في ذلك البلدان المتوسطية، وأعني هنا الحالتين السورية والليبية، اللتين شكّلتا عامل طرد، بخاصة في الحالة السورية، للمواطنين الساعين إلى النجاة من أتون صراعات داخلية مسلحة، ذات خلفيات عقائدية وسياسية، وولدتا حالة عجز للدولة عن توفير الأمن والنظام، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ولكن الصراعات المسلحة داخل أكثر من دولة عربية لا تقتصر على أطراف محلية فقط، بل هناك أطراف إقليمية ودولية يقع عليها على الأقل جزء من المسؤولية، سواء عن اندلاع الصراعات، أو اتساع رقعتها وما ترتب على ذلك من تدهور الأوضاع الحياتية والمعيشية للمواطنين. وعندما سعى المواطنون العرب الى الهجرة إلى أوروبا، بات الموقف مضطرباً، فأوروبا لا تستطيع أن تلقي باللائمة فقط على العرب، نظراً لأن أطرافاً أوروبية ضالعة ومنغمسة في التطورات السورية والليبية، ومن ثم لا تستطيع تجنب المسؤولية عن استيعاب أعداد من الساعين إلى الهجرة، والإعلان عن الإلتزام بتقسيم العبء على الدول الأوروبية لاستضافة العرب الساعين إلى الهجرة إلى أوروبا.

إلا أن هذا الالتزام يطرح تحديات، في حالة تنفيذ الأطراف الأوروبية ما تعهدت به من استضافة الأعداد التي أعلنت عنها، ويأتي في مقدم التحديات القدرة على التكيف بين استيعاب المهاجرين الجدد من جهة والحفاظ على التجانس المجتمعي والهوية التاريخية والوطنية للمجتمعات الأوروبية من جهة أخرى. ويضاف إلى ذلك أن إدماج مهاجرين عرب قدموا في الماضي إلى أوروبا لا تعتبر في طور الاكتمال، حيث تشكو دوائر مؤثرة في البلدان الأوروبية من أن هؤلاء لم يحققوا بعد درجة الإندماج المطلوبة في مجتمعاتهم الجديدة.

ويتفرع عن هذا التحدي تحدّ آخر ظهر في الأسابيع الماضية، وهو تأثير استيعاب الهجرة العربية الجديدة إلى أوروبا في التركيبة الدينية للمجتمعات التي تستقبلهم. ففي أكثر من دولة أوروبية، اشترط بعض مجالس المدن والقرى أن يكون له حق اختيار المهاجرين الذين تستقبلهم بناء على ديانتهم، ومع أن الحكومات الأوروبية المعنية اعلنت رفضها لذلك، الا إنه يعيد إلى الواجهة عاملاً آخر من عوامل معادلة برشلونة، وهو التطرف الديني وتوجهات التحريض على العنف والإرهاب. وفي مخيلة هذه الحكومات المحلية التي تشترط منحها الحق في اختيار من تستقبلهم من مهاجرين بناء على ديانتهم أن يمنحها ذلك القدرة على استبعاد، أو الحد قدر الإمكان من أعداد المهاجرين المسلمين بما يجنبها مخاطر الدخول لاحقاً في مواجهة أفكار متطرفة أو أعمال عنف أو إرهاب، في وقت صار فيه الإسلام، للأسف، مرتبطاً في عقول قطاعات من الأوروبيين، حتى من المواطنين العاديين، بهاتين النقيصتين.

أما آخر التحديات فهو تأثير الهجرة في التركيبة الديموغرافية للبلدان التي خرج منها الساعون الى الهجرة إلى أوروبا. ويندرج تحت هذا التحدي تحديان فرعيان، بخاصة في الحالة السورية: الأول هو أن تدافع الموجات المتتالية من الهجرة سيؤدي الى فراغ سكاني في مدن وبلدات بعينها، وهو أمر يبعث على التخوف من أن يؤدي ذلك، في حالة استقرار المهاجرين في البلدان المستقبلة لهم، إلى محاولة إحياء المساعي لإيجاد تسوية نهائية لقضية اللاجئين الفلسطينيين من خلال توطينهم في سورية بعد الصراع الحالي، أياً كانت طبيعة الدولة السورية آنذاك، وهي مساع لها جذورها التاريخية كما حصل مع الأردن في نهاية ستينات ومطلع سبعينات القرن العشرين، ومروراً بلبنان خلال سنوات الحرب الأهلية، ووصولاً إلى العراق في أعقاب حرب تحرير الكويت. أما التحدي الفرعي الثاني فهو أن يؤدي استقرار المهاجرين في البلدان المستقبلة لهم إلى افراغ المجتمع العربي من كل الأقليات التي تعيش فيه منذ قرون، وهو أمر يدعم طرح بعض القوى التي تدفع بأن البلدان العربية لا تستطيع تحمل التعددية الدينية.

ان قضية الهجرة العربية عبر المتوسط إلى أوروبا لها دلالات آنية، وأخرى بعيدة المدى، وجميعها تحمل انعكاسات على البلدان التي خرج منها الساعون إلى الهجرة وعلى البلدان المستقبلة لهم، كما على الساعين إلى الهجرة أنفسهم.

* كاتب مصري