+
أأ
-

شرق أوسط 2015 يشبه كثيراً أوروبا 1914: كيف تسنى ذلك؟

{title}
بلكي الإخباري فرِيد كابلان* - (سليت) 8/ 10/ 2015

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

مراقبة الأحداث المتعاقبة في سورية، تجعل من السهل إلى حد مخيف رؤية الكيفية نفسها التي سارت بها النخب السياسية الأوروبية في العام 1914 متعثرة إلى الحرب العالمية الأولى، وهي تعتقد أنها تخدم مجموعة معقولة من المصالح الوطنية.
لكن التشابهات تبقى بعيدة كل البُعد عن الدقة. فالتحالفات التي تربط بين اللاعبين في الشرق الأوسط اليوم ليست متداخلة ومعقدة مثل تلك التي سادت أوروبا في أوائل القرن العشرين. كما أن آليات التعبئة الحربية اليوم ليست صارمة وصعبة بالمقدار نفسه. وبطبيعة الحال، يمتلك قادة اليوم ذلك المثال الوقائي الاستباقي الذي وفرته الحرب العالمية الأولى، والذي يمكنهم أن يتأملوه: إنهم يعرفون مزالق التصعيد، والتداعيات المأساوية التي يمكن أن تجلبها الحرب غير المحدودة -مع أن الناس لا يأخذون العبرة دائماً من دروس الماضي.
مثل أوروبا قبل مائة عام وعام من الآن، يبدو الشرق الأوسط اليوم مثل برميل بارود، مع الكثير من فتائل التفجير التي توفرها مجموعة من الأنظمة الضعيفة، والميليشيات التي أنجبتها الألفية الجديدة، والثوار الذين يعملون لحسابهم الخاص وينطوون على تصورات متفارقة، وكل فصيل تؤيده (تسلحه مباشرة أو تساعده) قوى أكبر، بعضها منخرط في حروب بالوكالة، وبعضها انجرت إلى بوتقة الصراع بفعل تلاقي الدوافع، فيما تحاول مقاومة قوة الجذب التي تأخذها إلى تورط أعمق (مع فرص نجاح متناقصة). ولا يتطلب الأمر خيالاً جامحاً لرؤية أعواد الثقاب الجاهزة لإشعال الحريق -وبعضها نظير معاصر لحادثة اغتيال الدوق فرديناند، التي قدحت زناد الحرب العالمية الأولى.
فلنتأمل مجموعة العناصر الماثلة في المشهد الشرق أوسطي الحالي:
قبل سنة من الآن، صعَّد الرئيس أوباما حملة الضربات الجوية ضد "داعش"، بهدف تركيز الجهد في العراق (الذي فيه حكومة شبه حليفة، ومجموعة مألوفة من قادة الجيش)، في حين يتم وضع سورية (التي ليس فيها أي منهما) على الموقد الخلفي الأقل سخونة. وعندما ثبت أن هذه الخطة غير مجدية (لأن "داعش" صنع لنفسه جذوراً في سورية)، بدأ أوباما بتدريب وتجهيز بعض الثوار "المعتدلين"، كما لو أنه أراد اصطناع وسيلة يقول بها لقادة المنطقة السنيين إنه يفعل "شيئاً" لسورية. لكن هذا النهج أتى بنتيجة عكسية حين ضُرب هؤلاء الثوار المدربون أميركياً مباشرة في ميدان المعركة، وربما جاء بنتيجة عكسية أخرى في وقت أقرب، عندما دمرت صواريخ روسية قادمة من السفن في البحر مستودع ذخيرة لقوة ثوار تمولها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في جنوب سورية. ويضع كل هذا الرئيس أوباما في زاوية حرجة: هل يتراجع، أم يتقدم إلى موقف "لننتظر ونرى" بغية تجنب تصعيد الصراع، أم أنه سيرفع مستوى التحدي بصب المزيد من الموارد في مهمة لم ينظر إليها أبداً على أنها مهمة بشكل خاص؟ الخيار الأول ينطوي على خطر تنفير الحلفاء الذين يطالبون أميركا بمزيد من الالتزام المادي (بينما يحجمون، في بعض الحالات، عن المغامرة برؤية أولادهم ينزفون)؛ والخيار الثاني ينطوي على خطر التسبب بنشوب حرب مع روسيا.
على الجانب الآخر، أرسل الرئيس فلاديمير بوتين طائرات ودبابات، وربما قوات "متطوعة"، في الأسابيع الأخيرة، للمساعدة في إنقاذ نظام الرئيس السوري بشار الأسد، حليفه السياسي-العسكري الوحيد خارج مناطق الاتحاد السوفياتي السابق. وفي الأيام الأخيرة، ذهب بوتين مسافة أبعد، فأطلق صواريخ بعيدة المدى -26 منها يوم الأربعاء الماضي فقط- من سفن تبعد 1000 ميل في بحر قزوين، والتي قيل إنها لم تضرب أهدافاً لمجموعة "داعش" فقط، وإنما ضربت بعض مجموعات الثوار "المعتدلين" الذين كانت الولايات المتحدة ودول أخرى في المنطقة تدعمهم أيضاً.
لكن بوتين، الذي عادة ما يُصوَّر على أنه ساحر استراتيجي (من جهة بعض كتاب الأعمدة والمشرعين الأميركيين بطريقة لا تقل شغفاً عن خطاب فرق العلاقات العامة الخاصة به)، ربما يكون بصدد حفر حفرة لنفسه في سورية كذلك. فعلى المستوى التقني على الأقل، لم يقم الجيش الروسي بتنفيذ عمليات قصف جوية (جو-أرض) منذ العديد من السنوات -حتى أن هناك بعض الأدلة على أنه لا يعرف كيف. وقد ذكرت أخبار محطة "سي. إن. إن" يوم الخميس (وهو ما أكده لي مسؤول رفيع في الإدارة) أن أربعة صواريخ روسية منطلقة من بحر قزوين تحطمت في الأراضي الإيرانية وهي في طريقها إلى سورية. ومن غير المعروف بعد كم من الـ22 صاروخاً الأخرى ضربت أهدافها المقصودة في داخل سورية، وكم منها انحرف ربع ميل أو نحو ذلك عن مساره. (تنطلق بعض صواريخهم بأنظمة توجيه بدائية مقارنة بمعظم النماذج الأميركية الأكثر تقدماً، والموجهة بالأقمار الصناعية). فهل يصطدم صاروخ روسي ما، ربما واحد يُطلق غداً، بقاعدة أميركية في العراق؟ وماذا عندئذٍ؟
كما يحدث غالباً في التعامل مع روسيا بوتين، ثمة ألغاز محضة وحسب. في الأسبوع الماضي، عبرت طائرتان روسيتان إلى داخل المجال الجوي التركي -بشكل متعمد، وفقاً لمسؤولي دفاع أميركيين. وإحدى هاتين الطائرتين انخرطت في سلوك "استفزازي" مع الطائرات التركية التي احتشدت في الجو. وكادت طائرتان روسيتان أخريان تصطدمان بطائرات مراقبة أميركية من دون طيار -واحدة منهما ربما مصادفة، والأخرى بنية واضحة لحجب الطائرة الأميركية. ماذا لو يحدث مثل ذلك مرة أخرى ويقوم الأتراك بإسقاط طائرة روسية، أو يُسقط الروس طائرة تركية؟ إن تركيا هي دولة حليفة في الناتو؛ ويمكنها أن تستدعي المادة 5 من معاهدة حلف شمال الأطلسي، وتطلب المساعدة من الدول الحليفة. وهكذا، لا يبدو أن ثمة حدوداً لاحتمالات الأخطاء وسوء التقدير -أو المواجهات المتعمدة بشكل غريب.
يوم 1 تشرين الأول (أكتوبر)، سلم مسؤولو وزارة الدفاع الأميركية لنظرائهم الروس "مذكرة تفاهم"، والتي تضم ترددات الاتصالات اللاسلكية الخاصة بالطيارين الأميركيين ومعلومات أساسية أخرى، بهدف تقليل فرص تدخل أحد الطرفين في عمليات الآخر. وهذا إجراء قياسي حيثما يكون بلدان أو أكثر -سواء كان المشارك صديقاً أو عدواً أو غير ذلك- يطيرون في المجال الجوي نفسه. ولكن روسيا لم تستجب لتلك المذكرة حتى نشر هذا الموضوع.
باستثناء حماية نظام الأسد، أو تأسيس موطئ قدم لروسيا في سورية بحيث يمكن أن تلعب دوراً في اختيار خليفة للأسد إذا ما أطيح به بطريقة ما، فإن من غير الواضح ما يسعى إليه بوتين. وبالنظر إلى وضع التكنولوجيات في الجيش الروسي (المتخلفة عن تقنياتنا عقداً تقريباً)، وخبرته في عمليات الاشتباك عالية الإيقاع، وعدم قدرته على إرسال أي قوات برية (إرسال مجندين أمر غير وارد، وقوات العمليات الخاصة ربما تكون منهكة من -أو ربما ما تزال متمركزة في- شرق أوكرانيا)، فإن بوتين ربما لا يستطيع الاستمرار في هذا الأمر لفترة طويلة جداً. ويتنبأ بعض المختصين الإقليميين بأن تأتي ضرباته الجوية بنتائج عكسية؛ حيث تحرض مشاعر مزيد من الجهاديين للقدوم إلى ساحة المعركة -وربما تدفع إلى التطرف بالثوار "المعتدلين" الذين تضر الغارات الروسية بمواقعهم ومواقفهم القتالية.
ثم، مرة أخرى، ليس من الواضح تماماً ما هو الذي تريده الولايات المتحدة بدورها أيضاً. في الحلقة الأولى لهذا الموسم (والمقنعة بشكل مذهل) من الدراما التلفزيونية الأميركية، "الوطن" Homeland، يحاضر بيتر كوين، الذي أمضى السنتين الأخيرتين وهو ينفذ عمليات قتل مستهدفة ضد الجهاديين في سورية، في لقاء مع محللي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. ويسأله أحدهم: "هل تعمل استراتيجيتنا هناك جيداً؟" ويجيبه كوين "أي استراتيجية؟ قل لي ما هي استراتيجيتنا، وسوف أخبرك بما إذا كانت تعمل أم لا". وعندئذٍ يحطُّ الصمت على القاعة، وأعتقد أن الغرفة كانت ستغرق تماماً في الصمت أيضاً لو أن هذا كان مشهداً واقعياً من الحياة العادية.
يتلخص هدف إدارة أوباما العريض في إلحاق الهزيمة بمجموعة "داعش"، بينما تفرض ضغوطاً دبلوماسية وعسكرية ربما تفضي إلى الإطاحة بالأسد من سدة السلطة وتقود إلى عملية انتقالية في اتجاه حكومة سورية جديدة لا تقتل أبناء شعبها. والمشكلة هي أن من الصعب جداً تحقيق أي من هذين الهدفين -وبشكل خاص (وربما منطقياً) من المستحيل تحقيق كليهما.
سوف تتطلب هزيمة "داعش" حملة مشتركة -أو منسقة على الأقل- والتي تشنها عدة قوى في المنطقة (دول، وجيوش، وميليشيات)، بما فيها إيران -وربما الجيش السوري. نعم، لقد أنجبت وحشية الأسد ضد شعبه استياءً كبيراً استغله "داعش"، وتركت الحرب الأهلية الناجمة عنها فراغاً في السلطة والمؤسسات، والذي ملأه "داعش" بدهاء أيضاً. لكن الأسد، أو شخصاً يكون قادراً على قيادة جيشه، ربما يكون لازماً على المدى القصير لسحق "داعش" -خاصة طالما ظلت الأطراف المعنية الأخرى مترددة في فعل الكثير في هذا الصدد، لمختلف الأسباب. (الولايات المتحدة لن تقوم بإرسال قوات برية، وتعتبر تركيا الأكراد خطراً أكبر من "داعش"، ودول الخليج العربية السنية لن تفعل الكثير إذا كانت محاربة "داعش" ستعني تقوية الميليشيات الإيرانية والشيعية). وفي الوقت نفسه، تأنف إدارة أوباما من التعاون العلني مع إيران أو النظام السوري -فيما يعود في جزء منه إلى أسباب سياسية واضحة، وفي جزء آخر إلى تجنب إغضاب الحلفاء السنة، وفي جزء ثالث إلى كون إيران وسورية لا تريدان التعاون، أو أن يُنظر إليهما على أنهما تتعاونان مع أميركا.
هذا هو المصدر الرئيسي لقوة تنظيم "داعش"، والذي كانت لتتغلب عليه -بخلاف ذلك- قوة مشتركة من أعدائه: يخشى معظم هؤلاء الأعداء -أو أنهم يمقتون- بعضاً من الكيانات الأخرى المعادية لـ"داعش" أكثر مما يخشون "داعش" أو يكرهونه هو نفسه. وليست لدى أوباما أو الأعضاء الآخرون المحتملون للتحالف أي استراتيجية حقيقية تمكنهم من تقدير كيفية التغلب على هذه المشكلة -بحيث يتمكنون من وضع خطة ويمهدون طريقاً نحو الوحدة: إذا لم تكن وحدة الهدف النهائي (وهي مسألة منطقية)، فوحدة في التكتيكات والعمليات على أقل تقدير.
يشجب بعض منتقدي أوباما مقاومته للوقوع في التشابكات العسكرية التي يمكن أن تتصاعد حتى تفلت من السيطرة. ولكن، في منطقة تضج بالكثير مما هو خارج على سيطرة أي طرف، وحيث للكثير من الفصائل المسلحة مصالح متلاقية ومتعارضة مربكة، فإن رئيساً مقاوماً بهذه الكيفية يكون أفضل بكثير من واحد تكون غريزته الأولى هي تأكيد القوة الأميركية بتبجح غير مبرر -أو النظر إلى الخطوات الروسية الأخيرة بعدسة الحرب الباردة. وبغض النظر عما يمكن أن يبدو عليه اختيال بوتين الإمبراطوري، فإن الإمبراطورية السوفياتية أفلست منذ وقت طويل. وسورية هي البلد الوحيد خارج مناطق الاتحاد السوفياتي السابق، حيث تمتلك روسيا حليفاً عسكرياً قوياً ونوعاً من القاعدة العسكرية -وهو ما رتب على بوتين ضرورة التحرك بقوة لأن هذا الوضع كان على وشك الانهيار.
في الوقت نفسه، لا يستطيع الغرب، بما فيه الولايات المتحدة، تكلف مؤونة النظر إلى الصراع السوري على أنه عداوة وثأر غامض مستغلق، بحيث يكون من الأفضل تجاهله. ربما كان بالوسع صياغة أطروحة تدعم هذا الموقف قبل عدة أشهر، لكن من غير الممكن إقامة مثل هذه القضية الآن، بالنظر إلى أن 4 ملايين سوري سعوا إلى الملاذ -وأثاروا أزمة إنسانية واقتصادية وسياسية- في كامل أوروبا. وبعض من هؤلاء الملايين يفرون من الأسد، وبعضهم من "داعش"، لكن معظمهم يفرون من الحرب -ببساطة.
ينبغي أن يكون وقف الحرب، أو على الأقل تحديد نطاقها وعنفها بقدر يعتد به، هو الهدف الأعلى لاستراتيجية أي دولة خارجية، مهما تكن التنازلات الجيو-سياسية التي ربما يرتبها عليها ذلك. وفي الوقت نفسه، ينبغي أن تكون كل العمليات التكتيكية موجهة نحو تقليل الحوادث والحسابات الخاطئة التي يمكن أن توسع نطاق الحرب أو تشعل جذوة العنف -بعبارات أخرى، أن تكون موجهة نحو إطفاء الوميض الأول للهيب ربما يؤدي إلى إشعال الحريق، وتكرار نمط الحرب العالمية الأولى.

ala.zeineh@alghad.jo
*مؤلف كتاب "المتمردون: ديفيد بترايوس ومؤامرة تغيير الطريقة الأميركية في الحرب"، و"1959: السنة التي غيرت كل شيء".

*نشر هذا الموضوع تحت عنوان: The Middle East in 2015 Is a Lot Like Europe in 1914