+
أأ
-

التعليم العالي وصراع الاجيال

{title}
بلكي الإخباري د. خليـــل قطـــاونة

على خلاف ما يعتقد الكثيرون أن التعليم العالي في الأردن يشهد حالة من التراجع أو التدني، أعتقد أن التعليم العالي الأردني يعيش هذه الأيام حالة من المراوحة على الصعيدين الإداري والمالي وذلك بسبب الصراع المحتدم بين الأجيال الأكاديمية المتعاقبة التي تشكل فيما بينها طبقات تزداد سماكتها وتنقص حسب قربها أو بعدها من الروافع السياسية والاجتماعية أو الخبرات الدولية، والأخيرة قليلة ولله الحمد.

منذ عشرات السنين، والصراع يحتدم بين الأجيال الأكاديمية: الجيل الأول وهم الأكاديميون الذين خرجوا من الخدمة أو يوشكون (سن التقاعد الأكاديمي 70 عاما)، والجيل الثاني وهم اللاحقون الذين يتمتعون بالرتب والخبرات الأكاديمية والقيادية في الجامعات الأردنية المختلفة وأعمارهم تتراوح بين 55 سنة فأعلى (أو أدنى قليلا)، وقد سميناهم هنا بالجيل الجديد، وهم يمثلون أيضا طبقات سميكة نوعا ما ومستنفرة أيضا، ثم الجيل الثالث وهم اللاحقون اللاحقون الذين تنقصهم خبرات نظرائهم في الجيل الثاني، لكنهم يمتلكون روافع سياسية واجتماعية وأحيانا مالية.

ويمكن وصف حالة الصراع برفض الجيل الأول تسليم دفة الإدارة العليا للأجيال اللاحقة لاعتبارات نفسية، ومعاشية، ووجاهية أيضا، إما خشية من الموت الأصغر (التقاعد) وما يرافقه من خناقات أسرية، وكسل غير معتاد، وتدني مستوى المعيشة ، وعدم اعتراف الدولة بجهودهم ... الخ (وهي أنماط غير معتادة لهذا الجيل النشيط جدا) ، أو خشية من إدراك حقيقة الموت الأكبر أي الشعور بزحف خط النهاية الطبيعي إلى حياتهم، وهو شعور صعب في الحقيقة على الجميع، لكنها سنة الحياة، وينبغي أن يقبل هذا الجيل بمعادلة البناء والهدم التي طالما سعى لتعليمها للأجيال اللاحقة.

أما الجيل الثاني أي الذي ما زال يشعر أنه في سن العطاء، فمشكلته الكبرى أنه لا يستند إلى مقوماته الذاتية في الوصول إلى سدة الحاكمية للتعلم العالي والبحث العلمي، وغالبا ما يلجأ إلى روافع سياسية واجتماعية، بعضها من الجيل الأول غير الجاد أصلا في القيام بهذه المهمة، وإن قام بها فهو يريد من ذلك ابقاء نفوذه في توجيه قضايا التعليم العالي، وبين هذا وذلك يضيع التعليم العالي في حالة من صراع الأجيال أوقل حالة من المراوحة الأكاديمية أي تعادل قوى الصراع. إن ما يحدث بالجامعة الأردنية الآن هو مثال واضح لهذا الصراع الطبقي الاكاديمي، وما حدث مع الجيل الجديد المطالب بتأسيس نقابة لأعضاء هيئات التدريس والبحث العلمي خلال السنوات الخمسة الماضية مثال آخر على هذا الصراع أيضا.

فالأزمة التي خلقها مجلس التعليم العالي في مسألة تعيين رؤوساء الجامعات (اليرموك والتكنولوجيا والأردنية مثالا) هي حالة من الوصول إلى شبه توازن بين قوى الصراع، وهي حالة ستتكرر في كل شيء في التعليم العالي ابتداء من تمويل الجامعات التي بدأت تئن تحت نير المديونيات المتنامية، وانتهاء في حالة التدخل في الجامعات من خلال تعيين رؤوسائها، ونوابهم، والعمداء وحتى بعض الإدارات المتوسطة أيضا.
والتعليم العالي سيبقى رهين هذه الصراعات لا سيماء صراع الأجيال، طالما لم ينتج أعضائه ثورة بيضاء جذرية تبدأ بتغيير التشريعات التي تحكمه منذ الستينيات والسبعينيات، وهي تشريعات مهترئة، تكرس حالة الرئيس - الرجل الأول والأخير والآمر النهاهي - بالمؤسسات على حساب الحرية الاكاديمية التي ينبغي أن تسود داخل الحرمات الجامعية، بدل المؤامرات والشللية واللوبيات التي تعمل لأطياف فشلت في المعتركات السياسية ، وتحاول أن تثبت نفسها من خلال اللعب بين الاكاديميين والطلبة.

والأمر لا ينبغي أن يتوقف هنا، بل لا بد من الانتقال إلى تأسيس نقابة أو إتحاد نقابي للجامعات يوسع قاعدة المشاركة المنظمة والفاعلة للأكاديميين في شؤؤون جامعاتهم التي هم أعلم بها من غيرهم بحكم مؤهلاتهم وتخصصاتهم وخبراتهم، ويطور أدوات الرقابة الذاتية على الأداء الكلي للمؤسات والأداء الفردي لأعضاء هيئات التدريس في الجامعات المختلفة، ويكرس منهاج الحرية الأكاديمية لأعضاء هيئات التدريس، والطلبة، والطواقم الإدارية.

إن إتاحة الفرصة للأكاديميين في وضع التشريعات التي تبين حقوقهم، وواجباتهم، وخطر عدم الالتزام بأي منها، يخضع الجميع إلى حكم القانون الذي هو من صناعتهم، وليس من صناعة الجيل القديم فقط أو المشرعين القابعين في دواوين الدولة غير العارفين بشؤون الجامعات وطبيعة تركيبتها.

كما أن مشاركة الإكاديميين في وضع هذه التشريعات المعاصرة حيز الممارسة والتنفيذ (رغم خطر المقاومة الطبيعية)، ستحل معظم قضايا التعليم العالي ليس أقلها قضايا صارت تؤرقنا وتقض مضاجعنا يوميا مثل تعيين رئاسة الجامعات، وتمويلها، ومشاكل الطلبة، والطواقم الإدارية المساندة للعملية التعليمة التعلمية، وقضايا القبول، والاستثناءات، والمنح، والمساعدات، وسياسات الابتعاث، وحتى عدد الجامعات، وعلاقتها ببعضها البعض، وتنويع أهدافها حتى لا تكون نسخ مكررة عن بعضها.
التعليم العالي ليس فقاسات بيض، لأن ذلك يتنافى مع التنوع، الذي هو سر ديمومة الحياة، وتعاطيها، والتعليم العالي لا ينبغي أن يكون بين يدي حفنة من الأكاديميين (مع الاحترام الكبير لما قدموه للتعليم العالي وللأجيال الصاعدة والمنافسة اليوم)، بل يجب اخضاعه فورا للتشاركية العامة بين أعضائه دون شللية أو انحيازية لأن أصل الأشياء في التعليم والبحث العلمي هو الاتكاء على الحس السليم ، والموضوعية، والإبداع الحر، والاستقامة، والتواضع، والثقة بالنفس، وبالآخرين، وليس العكس.
وخلاصة القول إن حالة المرواحة التي يعيشها مجلس التعليم العالي والجامعات الرسمية والخاصة هي حالة توازن قوى الصراع التي يمكن حلها بتغيير أسلوب التعاطي مع الأزمة، من خلال مشاركة الأكاديميين على المستوى الرسمي والنقابي في إعادة النظر بالتشريعات التي تحكم مجلس التعليم العالي والجامعات والموافقة على نقابتهم المهنية واطلاق حركة إصلاح جذرية في جسم التعليم العالي دون تدخل أو وجل، تقود التعليم العالي إلى حالة من الإبداع الفكري والإداري والمالي، بدلا من حالة الصراع بين الأجيال التي يبدو أنها وصلت إلى ذروتها في القضايا التي عالجها مجلس التعليم العالي خلال الفترة القصيرة الماضية على صعيد تعيين رؤساء الجامعات، والصعيد المالي المنذر بالخطر في بعض الجامعات إن لم يكن كلها.

* اكاديمي اردني