+
أأ
-

المواطن الرقمي: حين يتحول الولع بالتواصل الاجتماعي إلى عزل وتآكل للقيم

{title}
بلكي الإخباري

 

 

خاص - في عصر باتت فيه شاشات الهواتف النوافذ المطلة على العالم، تحوّل ولع المواطن بمواقع التواصل الاجتماعي إلى ظاهرة عميقة تتجاوز مجرد الترفيه والتواصل، لتلامس جوهر هويته وعلاقاته، بل وتهدد بنية قيمه المجتمعية التي طالما كانت صمام أمانه. هذا الولع، وإن بدا للوهلة الأولى وسيلة للاتصال، إلا أنه في كثير من الأحيان يعزل الفرد ويحوله إلى مجرد أداة سهلة التوجيه في قبضة التكنولوجيا.

لطالما عُرف المواطن الأردني ،بغيرته الفطرية وحرصه الشديد على خصوصية أسرته، فكان يرفض رفضاً قاطعاً أن تظهر زوجته أو بناته أمام ضيوفه أو الغرباء، حفاظاً على حشمتهن وستر بيته. هذه القيم، التي تُعد ركيزة أساسية في نسيج مجتمعاتنا، يبدو أنها تتعرض اليوم لاهتزاز غير مسبوق. فالمواطن نفسه، الذي كان بالأمس حريصاً على الخصوصية، تحوّل اليوم إلى ناشر فخور لصور زوجته وبناته على الملأ عبر منصات التواصل الاجتماعي، وكأن مفهوم "الغريب" قد تلاشى من قاموسه الرقمي.

الأدهى من ذلك، أن البعض قد وصل به الحال إلى حد الغرابة عندما يبدأ في التفاعل ، بل والاحتفاء، بما يُعرف بـ "التحرش الإلكتروني" أو التعليقات المسيئة والانتهاكات التي تطال صور ومقاطع أفراد أسرته. هذا التحول من الحامي إلى المتغاضي، ومن المتمسك بالغيرة إلى المتباهي بالظهور، يمثل انحداراً خطيراً في سلم القيم، وينذر بتفكك تدريجي لمفاهيم الحشمة والاحترام التي كانت تحكم علاقاتنا.

إن هذا التغير الجذري في السلوكيات لا ينبع فقط من طبيعة التكنولوجيا ذاتها، بل من كيفية استهلاكها. فالخوارزميات المصممة لجذب الانتباه وإدمان المحتوى، تدفع المستخدمين نحو مزيد من التكشف والعرض، بحثاً عن الإعجابات والتفاعلات التي تتحول بحد ذاتها إلى عملة اجتماعية جديدة. هنا، يصبح الفرد أداة بيد هذه الخوارزميات، التي توجهه وتحدد ما يراه وما ينشره، في دورة لا نهائية من السعي وراء "القبول الرقمي".
إن القيم المجتمعية ليست مجرد شعارات، بل هي منظومة سلوكية تحافظ على تماسك الأسرة والمجتمع. عندما تُضرب هذه المنظومة في صميمها بسوء استخدام التكنولوجيا، فإننا لا نفقد فقط مفهوم الخصوصية، بل نفتح الباب على مصراعيه لتطبيع ما كان مرفوضاً، وتآكل للحياء العام، وظهور مشاكل اجتماعية ونفسية جديدة لم نكن نعهدها.
يُحتم علينا اليوم وقفة جادة لإعادة تقييم علاقتنا بمواقع التواصل الاجتماعي. فليس الهدف شيطنة التكنولوجيا، بل فهم خطورتها واستخدامها بوعي ومسؤولية. إن حماية القيم المجتمعية تبدأ من الفرد، من إدراكه لدوره كحارس لخصوصيته وخصوصية عائلته، ومن رفضه أن يكون مجرد أداة في يد عالم رقمي لا يقيم وزنًا للحدود والأخلاق. فالقضية ليست في وجود التكنولوجيا، بل في قدرتنا على السيطرة عليها، لا أن تسيطر هي علينا وعلى ما تبقى من قيمنا.