د. سليمان علي الخوالدة : الرقمنة الخضراء: قراءة في أبعاد التحول الرقمي وتأثيره على الاستدامة البيئية

يشهد الأردن في السنوات الأخيرة تسارعًا ملحوظًا في برامج التحول الرقمي، سواء في الخدمات الحكومية أو في مختلف القطاعات الاقتصادية. وما يلفت الانتباه أن هذه التحولات لم تقتصر على الجانب الإداري والاقتصادي، بل بدأت تؤثر أيضًا على البيئة، بشكل مباشر وغير مباشر.
بشكل عام أسهمت الخدمات الرقمية – وخصوصًا التحول نحو المعاملات الإلكترونية – في الحد من الحاجة إلى الورق والأخبار التقليدية المطبوعة؛ مما انعكس على تقليل استهلاك الأشجار والموارد الطبيعية المرتبطة بالإنتاج الورقي. كما ساهم هذا التحول في تقليل التنقلات لإتمام المعاملات، ما أدى إلى خفض استهلاك الوقود وانبعاثات الكربون.
علاوة على ذلك، ساعدت التقنيات الذكية في إدارة المياه والطاقة بشكل أكثر كفاءة، وهو أمر بالغ الأهمية للأردن، الذي يُعد من أكثر دول العالم فقرًا مائيًا. كما أتاح التحول الرقمي فرصًا للابتكار في مشاريع صديقة للبيئة، مثل: الزراعة الذكية، حلول الطاقة المتجددة، وإدارة النفايات عبر استخدام إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي.
وتُسهم الرقمنة الخضراء أيضًا في تمكين وإطلاق مشاريع ريادية تهتم بالبيئة؛ فهي توفر أدوات لإدارة الموارد بكفاءة، وتقدم بيانات وتحليلات دقيقة تساعد رواد الأعمال على تحديد فرص الابتكار في مجالات مثل: الزراعة المستدامة، إعادة التدوير، والطاقة المتجددة.
بالإضافة إلى ذلك، تقلل المعاملات الرقمية من الحاجة إلى الورق والنقل، مما يشجع على اعتماد نماذج أعمال صديقة للبيئة، ويجعل الرقمنة الخضراء رافعة تمكينية للريادة البيئية، تجمع بين التكنولوجيا والاستدامة. ورغم المزايا البيئية الواضحة، يواجه التحول الرقمي تحديات تحتاج إلى إدارة دقيقة.
فمراكز البيانات الضخمة، التي تدعم البنية التحتية الرقمية، تستهلك كميات كبيرة من الكهرباء؛ ومعظمها يعتمد على مصادر الطاقة التقليدية. كما يؤدي الانتشار السريع للأجهزة الإلكترونية والحواسيب إلى تراكم النفايات الإلكترونية، التي تتطلب برامج وطنية فعّالة لإعادة التدوير والمعالجة.
يُضاف إلى ذلك أن الفجوة في الوعي البيئي الرقمي ما تزال تحديًا حقيقيًا؛ إذ يفتقر العديد من المستخدمين والمؤسسات إلى المعرفة الكافية حول الاستخدام الرشيد للأجهزة، وطرق التخلص السليم من النفايات الإلكترونية.
ولتحقيق نجاح الرقمنة الخضراء في الأردن، لا بد من إطار متكامل يشمل التشريعات والسياسات الوطنية. ويمكن إصدار قوانين تحدد معايير الاستدامة في البنية التحتية الرقمية، وتشجع استخدام الطاقة المتجددة في تشغيل مراكز البيانات؛ مع تقديم حوافز للشركات والمؤسسات الحكومية للالتزام بالمعايير البيئية.
كما أن وضع استراتيجية وطنية للتحول الرقمي الأخضر يضمن أهدافًا زمنية واضحة لتقليل الانبعاثات وتعزيز الخدمات الرقمية، مدعومة بقرارات تنفيذية على مستوى الوزارات، لضمان التزام جميع الجهات.
فالقطاع العام مسؤول عن توفير البنية التحتية الرقمية وضمان الالتزام بالمعايير، بينما يقدم القطاع الخاص حلولًا مبتكرة صديقة للبيئة، مثل: الدفع الإلكتروني، والتطبيقات الرقمية منخفضة الاستهلاك للطاقة.
أما المجتمع المدني، فيلعب دورًا مهمًا في رفع الوعي، وتشجيع الاستخدام المسؤول للخدمات الرقمية، والمشاركة في برامج إعادة التدوير والمبادرات البيئية.
كما يُنتظر من المؤسسات البيئية ومنظمات حقوق البيئة أن تلعب دورًا محوريًا في إنجاح الرقمنة الخضراء، من خلال الضغط باتجاه تبني سياسات بيئية رقمية، والمشاركة في رسم الاستراتيجيات الوطنية، وتقديم الخبرة الفنية لضمان أن تكون الحلول الرقمية متوافقة مع مبادئ الاستدامة.
إن التحول الرقمي في الأردن يمثل فرصة مزدوجة؛ فهو يمكن أن يكون رافعة لتعزيز الاستدامة البيئية إذا جرى توجيه الجهود نحو الطاقة النظيفة، وإدارة الموارد بكفاءة، والتعاون بين القطاعات المختلفة.
وقد يتحول إلى عبء إضافي إذا لم تُراعَ المخاطر البيئية المصاحبة. ومن هنا، يبرز مفهوم «الرقمنة الخضراء» كإطار عملي يربط بين التطور التكنولوجي وحماية البيئة، بحيث يكون التحول الرقمي شريكًا للطبيعة، لا عبئًا إضافيًا عليها. ويصبح نموذجًا يُحتذى به، يجمع بين التقنية، والسياسة، والمجتمع، لتحقيق التنمية المستدامة.



















