د. نهاد الجنيدي :- من النيل إلى الفرات أم من الشتات إلى الممات؟

﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾
الجزء الثاني: الحرب العالمية الأولى – من سقوط الخلافة إلى وعد بلفور
بسم الله الرحمن الرحيم
لم يكن انهيار الخلافة العثمانية وليد صدفة، بل نتيجة مؤامرة طويلة نُسجت خيوطها في الداخل والخارج. ففي أواخر القرن التاسع عشر تكاثرت الجمعيات والتنظيمات التي أسسها مواطنون عثمانيون من الأقليات اليهودية التي ادّعت الإسلام، وحتى بعض المسلمين الذين تشبّعوا بالأفكار الغربية بعد دراستهم في أوروبا. وكان أبرزها جمعية الاتحاد والترقي، التي تغلغل فيها يهود الدونمة حتى بسطوا نفوذهم على ضباط كبار في الجيش العثماني ومفاصل الدولة الحساسة من وزارات وإدارات ومراكز صنع القرار. فصار القرار العسكري والسياسي بيد جماعة ترفع شعار الإصلاح، بينما تعمل في الخفاء على تقويض الخلافة وإضعافها، لتتحول إلى أداة تخدم مصالح القوى الاستعمارية ومخططاتها.
أما السلطان عبد الحميد الثاني، فقد كان العقبة الكبرى أمام مشروع ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، الذي جاء يطلب إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فقوبل طلبه بالرفض القاطع. ومن هنا تحوّل السلطان إلى هدف مباشر لمؤامرات الاتحاد والترقي، التي رأت فيه السدّ المنيع أمام أطماعها وأطماع القوى الغربية. وبعزله، انكسر آخر الحصون التي كانت تقف في وجه المشروع الصهيوني، وضعفت أركان الخلافة حتى تهاوت، ووجد الاستعمار ثغرته التاريخية في قلب الأمة. وبذلك خسر المسلمون آخر قائد تمكّن من تعطيل المشروع وتأخير زحفه على فلسطين.
ولم تخلُ تلك المرحلة من محاولات صادقة لإنقاذ الخلافة وصون الأمة العربية، والحيلولة دون وقوع فلسطين فريسة للمخططات. وفي طليعة تلك المحاولات برزت الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي وأبنائه، وفي مقدمتهم الأمير فيصل الذي حمل راية العرب في المشرق، بروح النهضة والكرامة، محاولةً جمع شتات العرب وإحياء الأمل. وقد جاءت الثورة بعد أن عُزل السلطان عبد الحميد الثاني، حيث رأى العرب أن الفراغ الذي خلّفه عزله قد استغلته جمعية الاتحاد والترقي للسيطرة على الدولة وتوجيهها نحو سياسات التتريك والتفكيك. عندها انطلقت الثورة مستندةً إلى شرعية النسب النبوي الشريف، وإلى بيعة العرب للشريف حسين باعتباره أمير مكة وحامي الحرمين الشريفين، لتكون مواجهةً صريحة لممارسات الاتحاد والترقي، ومحاولة حقيقية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جسد الأمة الممزق، وحماية فلسطين من السقوط في براثن المشروع الصهيوني.
ولم يقتصر استهداف المشروع الهاشمي على ميادين الثورة فحسب، بل امتد إلى محاولاتهم في بناء دولة مستقلة في الشام. فبعد أن دخل الأمير فيصل دمشق وأُعلنت المملكة العربية السورية عام 1920، لم يرضَ الفرنسيون بوجود عرش عربي مستقل، فاندلعت معركة ميسلون بقيادة الشهيد يوسف العظمة. ورغم بسالة العرب ، سقطت دمشق تحت الاحتلال الفرنسي، وانتهى بذلك أول عرش هاشمي في سوريا قبل أن يكتمل، في مشهدٍ عبّر عن حجم المؤامرة على النهضة العربية، وأكد أن القوى العظمى لم تكن لتسمح بولادة دولة عربية موحَّدة مستقلّة.
غير أنّ اختراق الدونمة لمفاصل الدولة العثمانية، وضغط بريطانيا وفرنسا الخارجي، مع ضعف التسليح وضآلة الإمكانات، جعل تلك المحاولات تصطدم بواقع قاسٍ. وبينما كانت الثورة العربية الكبرى تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كانت القوى العظمى تخطّط في الخفاء لاقتسام المشرق العربي فيما بينها، فجاءت اتفاقية سايكس–بيكو لتعكس مطامع الاستعمار، لا لتعبر عن أهداف الثورة ولا عن آمال العرب. ثم تُوّجت الحرب بوعد بلفور، الذي منح بريطانيا الغطاء الشرعي والسياسي لإقامة المشروع الصهيوني في أرض فلسطين. وهكذا التقت المؤامرة الداخلية مع المؤامرة الخارجية لتصيب الأمة في قلبها، وتضع فلسطين في عين العاصفة.
ولم يكن الصراع مقتصرًا على الكواليس السياسية فحسب، بل تجلّى في الميدان العسكري أيضًا. فقد قاتل رجال جمعية الاتحاد والترقي، المتأثرون بسياسات الدونمة، قوات الشريف حسين وأبنائه في الحجاز، وضيقوا عليهم في العراق والشام، خوفًا من أن يشكّلوا بديلاً حقيقيًا يحفظ للخلافة روحها ويحمي فلسطين من المخطط. فكانت المواجهة بين مشروعين: مشروع النهضة العربية بقيادة الهاشميين، ومشروع التتريك والتفكيك بقيادة الجمعية. ومع انحياز القوى العظمى آنذاك إلى مشروع الجمعية ودعمه بالسلاح والسياسة، وجد العرب أنفسهم في معركة غير متكافئة، تكالبت عليهم القوى، وضاقت بهم السبل، وخذلتهم الإمكانات. وكان ذلك جزءًا من مشيئة الله في تنفيذ وعده الحق، ليمضي القدر كما أراده سبحانه، ويفتح الباب أمام الاستعمار ليغرس الكيان المصطنع في قلب المشرق.
ورغم كل ما واجهوه من مؤامرات وضغوط، فإن الهاشميين واصلوا دورهم التاريخي. فبعد سقوط العرش في سوريا، انتقل الأمير فيصل ليؤسس الدولة العراقية الحديثة ويصبح أول ملوكها، فيما تولى شقيقه الأمير عبد الله تأسيس إمارة شرق الأردن التي غدت المملكة الأردنية الهاشمية. غير أن المشروع النهضوي الهاشمي لم يسلم من محاولات الإجهاض والانقلابات؛ فاغتيل الملك غازي الأول في حادث غامض عام 1939، كما اغتيل الملك عبد الله الأول في القدس عام 1951 بسبب مواقفه الصريحة في نصرة القضية،ثم قُتل حفيده الملك فيصل الثاني عام 1958 على يد انقلاب دموي في بغداد، فسقط العرش الهاشمي هناك، فيما واصل أشقاؤهم في الأردن حمل الأمانة وصون الرسالة حتى يومنا هذا.
وهكذا كانت الحرب العالمية الأولى البداية الفعلية لمسار “الجمع اللفيف”، حيث أُسقطت الخلافة، وتشرذمت الأمة، وفُتح الباب أمام موجات اليهود للهجرة إلى فلسطين تحت الحماية البريطانية. ولم يقف الأمر عند حدود الأمة الإسلامية وحدها، بل امتد إلى قلب أوروبا، حيث جرى تفتيت الإمبراطورية الألمانية وإضعافها بمعاهدة فرساي القاسية، فيما انهارت روسيا القيصرية تحت ضربات الحرب والثورة، لتولد على أنقاضها قوة جديدة. ولم يكن ذلك تأسيسًا لواقع مختلف كما توهّم البعض، بل خطوة من خطوات الوعد الإلهي: جمعهم الله من الشتات، وأدخلهم أرضًا محدودة، لتكون ميدان القضاء الإلهي. قال تعالى:
﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾.
✦ يتبع في الجزء الثالث: عن تداعيات انهيار روسيا القيصرية ومعاهدة فرساي التي أضعفت ألمانيا، وكيف هيأت هذه الأحداث الكبرى المناخ الدولي لتمكين المشروع الصهيوني وفتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية. كذلك عن دور الحرب العالمية الثانية في إرهاب اليهود وتشجيعهم على الهجرة من أوروبا – من دول متقدمة كألمانيا وروسيا وفرنسا – إلى فلسطين، حيث كان عليهم أن يبدؤوا من الصفر في أرض جديدة، تحت رعاية القوى الاستعمارية.



















