+
أأ
-

د. محمد رسول الطراونة : الشراء الاستراتيجي للخدمات الصحية: من الفوضى إلى الحوكمة ومن التكلفة إلى القيمة

{title}
بلكي الإخباري

في ظل التحديات المالية والخدمية التي يواجهها القطاع الصحي الأردني، تبرز الحاجة الملحة للانتقال من نماذج الشراء التقليدية والعشوائية إلى نموذج شراء استراتيجي يحقق القيمة مقابل كل دينار ينفق. فبينما تلجأ وزارة الصحة إلى التعاقد الجزئي مع بعض الأطباء كحل سريع لسد العجز، يبقى هذا الإجراء مجرد " ترقيع" آني لا يلامس جذور المشكلة.

يتميز التعاقد الجزئي مع بعض الأطباء بسمات تجعله حلاً ضعيفاً على المدى البعيد: فهو ذو طابع آني يركز على سد فجوة فورية (كتوفير طبيب جراحة قلب او غيره من التخصصات الشحيحة والنادرة) دون معالجة سبب النقص الهيكلي، يعتمد معيار السعر / المكافأة والتوافر ، حيث يُختار الطبيب غالباً بناءً على أقل سعر / مكافأة أو أول متاح، لا على أساس كفاءته أو جودة خدماته، محوره الخدمة لا النتيجة اذ يُدفع للطبيب مقابل ساعات عمله، بغض النظر عن تحسّن صحة المرضى أو جودة الرعاية، هذا النهج يُضعف استقرار الكوادر الطبية ويُعيق بناء نظام صحي مستدام، مما يخلق " فوضى الشراء" التي نعانيها.

اما الشراء الاستراتيجي فهو البديل المنطقي للتحول من "الكلفة" إلى "القيمة" فهو فلسفة متكاملة تتحول فيها وزارة الصحة من "مشغّل" للمستشفيات إلى "مشترٍ حكيم" للخدمات ، انه نموذج متقدم لإدارة الموارد الصحية، يتحول فيه دور المشتري (وزارة الصحة أو شركات التأمين) من مجرد دافع للفاتورة إلى "مدير فعال للنظام الصحي". يعتمد هذا النموذج على توجيه الموارد المالية بشكل انتقائي نحو مقدمي الخدمات الذين يثبتون كفاءتهم في تقديم رعاية عالية الجودة وبأسعار معقولة، مما يحفز المنافسة الإيجابية ويُحدث تحولاً جذرياً في جودة وكفاءة الخدمات، فالشراء الاستراتيجي لا يهدف الى خفض التكاليف فحسب، بل لتحقيق أفضل النتائج الصحية للمواطن، فهو يقوم على أسس جوهرية تميزه تماماً عن التعاقد الفردي لعل من اهمها :التركيز على القيمة فالهدف هو تحقيق أفضل النتائج الصحية مقارنة بالتكلفة ، بدلاً من الدفع مقابل كل خدمة، قد يتم الدفع مثلا مقابل "إدارة مرض السكري" لمجموعة من المرضى، حيث يُكافأ مقدم الخدمة على تحقيق مؤشرات مثل انضباط مستوى السكر في الدم وتقليل المضاعفات، والشراء يتم من "منظومة رعاية " اذ لا يتعاقد مع أطباء أفراد، بل مع "تجمعات طبية " مسؤولة عن تقديم رعاية متكاملة من الوقاية إلى العلاج لسكان محافظة او منطقة سكنية معينة او حتى مجموعات بشرية، تتم المنافسة فيه على أساس الجودة حيث يتم اختيار مقدم الخدمة بناءً على مؤشرات أدائه (معدلات العدوى المكتسبة، رضا المرضى، النتائج السريرية وغيرها من المؤشرات )، وليس على السعر او المكافأة فقط. جوهر الشراء الاستراتيجي الفصل بين الممول ومقدم الخدمة و بتحول الوزارة إلى "مشترٍ"، تخلق بيئة مساءلة حقيقية تتنافس فيها المستشفيات (حتى الحكومية) على كسب عقود التمويل بإثبات جودتها. لحسن الحظ، يمتلك الأردن الأسس الأولية للانطلاق في هذه الرحلة والتي تبدأ بالاستفادة من منصة "حكيم" والتي يمكن تطويرها لتكون نظاماً وطنياً لجمع البيانات حول التكاليف والنتائج الصحية، مما يوفر الأساس لقياس الأداء واتخاذ قرارات الشراء ، اما مشروع الصندوق الوطني للتأمين الصحي سيكون الكيان الأمثل لتطبيق آليات الشراء الاستراتيجي ، حيث يعمل كممول موحد ومشترٍ استراتيجي للخدمات من مختلف مقدميها

يمكن الاستفادة من نماذج إقليمية ناجحة، مثل تجربة المملكة العربية السعودية التي أسست "شركة شراء الخدمات الصحية" ككيان مستقل لشراء الخدمات من القطاعين العام والخاص بناءً على معايير الكفاءة والجودة. تهدف هذه الخطوة الجريئة إلى تحويل القطاع الصحي الحكومي إلى نموذج قائم على المنافسة والمساءلة.

لم يعد أمام النظام الصحي الأردني خيار إلا اعتماد الشراء الاستراتيجي كمدخل أساسي للإصلاح، التعاقد الجزئي مع الأطباء قد يطفئ حرائق آنية، لكنه لا يبني نظاماً قادراً على الصمود، المستقبل يكمن في التحول إلى شراء "القيمة" بدلاً من شراء "الخدمة"، وشراء "الصحة" بدلاً من شراء "العلاج".

لننتقل من الترقيع إلى البناء ، لا غنى عن الحلول السريعة مثل التعاقد الجزئي مع الأطباء لمعالجة الاختناقات الآنية، لكن الخطر يكمُن في اعتبارها بديلاً عن الإصلاح الهيكلي،المستقبل يكمن في تبني رؤية استراتيجية شاملة، حيث يصبح "الشراء الاستراتيجي" هو الآلية الأساسية لتمويل وتقديم الخدمات الصحية. هذا التحول ليس رفاهية، بل هو استثمار في رأس المال البشري وضمانة لاستدامة النظام الصحي، يضمن أن يحصل كل مواطن على الرعاية التي يحتاجها، بالجودة التي يستحقها، وبالكفاءة التي تمكن النظام من الاستمرار في أداء رسالته

خلاصة القول، الشراء الاستراتيجي للخدمات الصحية ضرورة حتمية لمواجهة التحديات المالية والتشغيلية التي تواجه الأنظمة الصحية حول العالم، هو رحلة تحول من ثقافة "الإنفاق" إلى ثقافة "الاستثمار" في صحة المواطن. نجاح هذه الرحلة يتطلب إرادة سياسية قوية، وبناء قدرات مؤسسية متينة، وبنية تحتية رقمية متطورة، وشفافية تامة، لضمان أن تتحول كل موازنة صحية إلى قيمة ملموسة في حياة الأفراد والمجتمعات.

أمين عام المجلس الصحي العالي السابق