+
أأ
-

الأب عماد الطوال يكتب : عيد الميلاد… مساحة إنسانية تتّسع للجميع

{title}
بلكي الإخباري

 

الأب عماد الطوال- ماركا الشمالية

في كل عام يعود عيد الميلاد ليذكّرنا بما هو جوهري في حياتنا. قد تختلف طقوسه بين بلد وآخر، وقد تتنوّع دلالاته بين مؤمن يتأمل في البعد الروحي، وباحث عن معنى يتجاوز المظاهر، غير أنّ حقيقة واحدة تبقى ثابتة: الميلاد ليس تقليدًا احتفاليًا، بل رسالة إنسانية تقول إن قيمة المرء لا تُقاس بما يملك، بل بما يعطي. تلك الحقيقة التي وُلدت في مغارة بسيطة ما تزال حتى اليوم قادرة على ملامسة قلوب تبحث عن نور وسط ازدحام الأيام.

يُطرح أحيانًا سؤال جوهري: ماذا يمكن لعيد انبثق قبل آلاف السنين أن يقوله لعالمنا اليوم؟

الإجابة لا تكمن في التاريخ ولا في مظاهر الاحتفال، بل في الحاجة الإنسانية المستمرة إلى ضوء يعيد ترتيب الداخل. فالميلاد، مهما اختلفت طرق الاحتفال به، يظلّ حدثًا يذكّر الإنسان بأن امتلاكه القدرة على النهوض من ضعفه ليس خيالًا، بل حقيقة تتجدد كلما اختار أن يحوّل هشاشته إلى بداية جديدة. كما تقول الام تريزا: ليس المهم ما نعطيه، بل مقدار المحبة التي نضعها في العطاء".

المغارة التي شهدت بداية الحكاية لم تكن مسرحًا لحدث عابر، بل رمزًا لولادة المعنى في الأماكن المتواضعة. إنها إشارة إلى أن النور قادر على الظهور من حيث لا نتوقعه، وكأن العالم يهمس لنا: لا تنتظر الظروف المثالية لتبدأ التغيير. فالأفكار العميقة غالبًا ما تولد في الصمت، والنهضات الكبرى تبدأ من قلب واحد امتلك الشجاعة ليرى ذاته والعالم بطريقة مختلفة.

يحمل عيد الميلاد اليوم دعوة هادئة، لكنها عميقة، لإعادة اكتشاف إنسانيتنا. ففي زمن تتسارع فيه الخطوات وتتباعد فيه القلوب، نحتاج إلى تذكير بأن البشر قادرون على الاقتراب بكلمة طيبة، أو لفتة رحمة، أو اهتمام صادق. لقد أصبح الإنسان أكثر اتصالًا بكل شيء، إلا بنفسه؛ وأكثر قدرة على الوصول إلى الآخرين، لكن أقل قدرة على الإنصات لهم. لذلك يذكّرنا الميلاد بأن العلاقات تُبنى بالوقت لا بالسرعة، وأن القلوب لا تضيء بالشاشات بل بالاهتمام اليومي الصادق، وأن الكرامة تُصان بالفعل قبل القول.

وفي كل بيت تُضاء فيه شجرة، وفي كل شارع تُرفع فيه زينة، يكمن معنى يتجاوز المظاهر الخارجية. فالشجرة ليست مجرد احتفال، بل تعبير عن رغبة الإنسان في الجذور والاستمرار. والزينة محاولة لبث دفء في أيام أثقلتها الصعوبات. أما الهدايا، فقيمتها ليست في مادتها، بل في النية التي تحملها، وفي الرسالة الخفية التي تقول: أنت حاضر في حياتي.

جمال عيد الميلاد أنه لا يفرض إيمانًا بعينه، بل يقترح طريقة للعيش: أن نكون أقل قسوة، أكثر تفهّمًا، وأصدق حضورًا تجاه أنفسنا وتجاه من نحب. أن نرى في الضعف وجهًا من وجوه الإنسانية، وفي الاختلاف فرصة للاتصال لا للانفصال.

وربما تكمن أعمق رسائله في أن لكل إنسان مغارته الخاصة التي ينتظر أن يولد فيها نور جديد. قد تكون تلك المغارة خوفًا دفينًا، أو جرحًا قديمًا، أو علاقة تحتاج إلى شجاعة لترميمها، أو حلمًا مؤجلًا ينتظر فسحة ليعود إلى الحياة. والميلاد هو اللحظة التي نسمح فيها للنور، ولو كان خافتًا، أن يدخل هذه الأماكن المغلقة في دواخلنا.

وإذا بدا العيد للكثيرين احتفالًا خارجيًا، فإنه في جوهره حدث داخلي. فحين يولد في القلب شيء من السلام، ينتقل هذا السلام إلى البيت، ثم إلى المجتمع، ثم إلى العالم. هكذا يبدأ التغيير: من قلب واحد يقرر أن يكون أكثر لطفًا، وأصدق نية، وأكثر إنسانية مما كان عليه بالأمس.

وهذا هو جوهر الميلاد الحقيقي… أن نعطي أنفسنا فرصة كي نبدأ من جديد، بهدوء، وبصدق، وبقلب يعرف أن الخير مهما بدا بسيطًا قادر على تغيير حياة أحدهم. في الميلاد، "إنه يقول لنا إن الإنسانية تُستعاد حين نقترب من الجراح، لا حين نهرب منها" ."نتعلّم أن الله يثق بإنسانيتنا… فهل نثق نحن بها، ونحمل نورها إلى عالمٍ بأمسّ الحاجة إليه؟" (البابا فرنسيس)