+
أأ
-

الكاتبة فيجا أبوشربي تكتب : كانت اللغة وطنًا

{title}
بلكي الإخباري

 

لم تكن الأمة العربية في بداياتها سؤالًا عن الهُويّة، ولا مشروعًا سياسيًا يبحث عن شرعية، بل كانت واقعًا يُعاش قبل أن يُنظَّر له، وشعورًا جمعيًا سابقًا على الدولة والحدود. لم يكن العربي يحتاج إلى أن يُعرِّف نفسه، لأن اللغة كانت كافية، والذاكرة المشتركة كانت أوسع من أي جغرافيا مرسومة. كان الانتماء يُولد مع الإنسان كما يولد اسمه، بلا حاجة إلى وثائق أو شعارات.

كانت الأمة تُعرَف بلسانها قبل أن تُعرَف بسلطتها. العربية لم تكن مجرد أداة تواصل، بل وعاءً للمعنى، وسجلًا للزمن، وبيتًا تسكنه الذاكرة. من المحيط إلى الخليج، لم تكن اللهجات عائقًا، بل تنويعات على نغمة واحدة. القصيدة تُفهَم في بغداد كما تُفهَم في فاس، والخطبة تُحرِّك الوجدان في دمشق كما في القاهرة. اللغة صنعت وحدة شعورية سبقت أي وحدة سياسية.

لم تكن اللغة العربية يومًا مجرد وسيلة للتخاطب، بل كانت طريقة في التفكير، ومنظومة قيم، وبنيةً ترى العالم وتعيد تشكيله. بها صيغت المفاهيم الأولى عن الشرف، والعدل، والكرامة، وبها انتقلت التجربة من جيل إلى جيل دون أن تنقطع السلسلة. كانت الكلمة تُورَّث كما تُورَّث الأرض، ويُحافَظ عليها كما يُحافَظ على النسب.

حين غابت الدولة عن مركز الهوية ، أدّت اللغة دور الدولة. وحين غابت الحدود، كانت العربية هي الإطار الناظم، وحين تفرّقت السلطة، بقي اللسان جامعًا. لم تكن هناك حاجة إلى تعريف “من نحن”، لأن اللغة كانت تجيب تلقائيًا. من يتكلمها ينتمي، ومن يفهم إيقاعها يعرف نفسه داخلها. هكذا تشكّلت أمة قبل أن تُسمّى، وتكوّن وعي جمعي قبل أن يُدوَّن في دساتير.

ومع تحوّلات التاريخ، وتبدّل موازين القوة، تراجعت اللغة من موقع الفاعل إلى موقع المُدافع. لم يعد السؤال: ماذا تقول العربية؟ بل: هل ما زالت قادرة على القول؟ لا لأن اللغة ضعفت، بل لأن علاقتنا بها اختلّت. صرنا نحمّلها مسؤولية تخلّفنا، بدل أن نسأل كيف تخلّينا عنها بوصفها أداة إنتاج للمعرفة، لا مجرد رمز تراثي نعلّقه في المناسبات.

العربية التي قادت الفلسفة، واحتضنت العلوم، واشتقت للمفاهيم حين عجزت لغات أخرى عن التسمية، لم تفقد قدرتها، بل أُقصيت عن دورها. أُبعدت عن البحث، وحُوصرت في التعليم، وجُرِّدت من حقها في التطوّر الطبيعي. ومع ذلك، بقيت حيّة، قادرة على التجدد كلما وُجد من يؤمن بها لا بوصفها ماضيًا، بل مستقبلًا.

الدفاع عن العربية ليس دفاعًا عن لغة، بل عن طريقة في الوجود. عن ذاكرة لا تزال قادرة على الربط بين الشعوب رغم ما فُرض عليها من انقسام. عن خيطٍ رفيع، لكنه متين، يربط الإنسان بجذوره دون أن يمنعه من الانفتاح على العالم. فالأمم التي تفقد لغتها لا تخسر وسيلة التعبير فحسب، بل تخسر قدرتها على رواية نفسها.

العربية لا تطلب شفقة، ولا تحتاج خطابات عاطفية. ما تحتاجه هو أن تُستعاد إلى مكانها الطبيعي: لغة تفكير، لغة علم، لغة حياة. حين نكتب بها بصدق، ونفكّر من خلالها لا عنها، تعود الأمة سؤالًا حيًا، لا ذكرى مؤجلة. وتعود اللغة، كما كانت، بيتًا واسعًا يسع الجميع، لا متحفًا نزوره ثم نغادره.