د عاطف نايف زريقات يكتب : المال… بين الوهم الأخلاقي وواقع السلطة حين تُدار السياسة ويُحتلّ الوعي

القول إن المال ليس مهماً قد يبدو صحيحاً فقط في حالة واحدة حين يختار الإنسان الانسحاب الكامل من العالم المادي متبنياً حياة الزهد أو الرهبنة أو التقشف الطوعي أما خارج هذا الاستثناء فإن إنكار أهمية المال لا يُعد موقفاً أخلاقياً بقدر ما هو إنكارٌ لواقع صلب يحكم حياة البشر ويوجّه مسارات الدول والمجتمعات ٠
في العالم الحديث لم يعد المال مجرد وسيلة للعيش بل تحول إلى أحد أهم أدوات القوة به تُدار الاقتصادات وتُصاغ السياسات وتُشترى المنابر وتُصنع النخب ويُعاد تعريف الممكن والمستحيل ومن يتجاهل هذا الدور يعجز عن فهم آليات السيطرة والنفوذ في عالم تحكمه المصالح قبل المبادئ .
يقدّم التاريخ شواهد لا تُحصى على مركزية المال في توجيه القرار فالإمبراطوريات الكبرى لم تُبنى على الجيوش وحدها بل على التمويل الإمبراطورية البريطانية على سبيل المثال لم تكن إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس بقوة السلاح فقط بل عبر هيمنة رأس المال والبنوك وشركات الاحتكار وعلى رأسها شركة الهند الشرقية التي مثّلت نموذجاً مبكراً لتحالف المال بالسياسة في إخضاع الشعوب ونهب ثرواتها ٠
وفي العصر الحديث لعب رأس المال دوراً حاسماً في صعود الولايات المتحدة قوةً عظمى بعد الحرب العالمية الثانية فمشروع مارشال لم يكن برنامج مساعدات بريئاً بل أداة استراتيجية لإعادة تشكيل أوروبا سياسياً واقتصادياً وربطها بالنفوذ الأميركي لم يكن المال هنا عملاً خيرياً بل استثماراً مباشراً في القرار والسيادة ٠
أما في عالم السياسة المعاصرة فيكفي النظر إلى تأثير اللوبيات الاقتصادية داخل ما يُسمّى بالديمقراطيات الغربية. شركات السلاح والطاقة والمصارف الكبرى تمتلك من النفوذ ما يجعلها شريكاً فعلياً في رسم السياسات سواء في قضايا الحرب أو السلم أو التشريعات الاقتصادية ٠ حتى الحملات الانتخابية نفسها باتت رهينة التمويل ما جعل المال البوابة الأولى للوصول إلى السلطة لا الكفاءة ولا البرامج لكن الخطر الأكبر لا يكمن في السياسة وحدها بل في الإعلام فقد خرج الإعلام في كثير من الحالات عن دوره الرقابي وتحول إلى جزء من منظومة التمويل والسلطة ٠ المال لا يشتري الخبر دائماً لكنه يحدد زاوية تقديمه وتوقيته وسقفه وما يُقال وما يُحجب وهنأ يصبح الإعلام الموجَّه سلاح دمار شامل لا يقل فتكاً عن السلاح العسكري لأنه يستهدف الوعي الجمعي ويعيد تشكيل الحقائق ويقلب الضحية جلاداً والجلاد ضحية ٠
ما يجري في غزة اليوم مثال صارخ على ذلك فبينما تُرتكب المجازر على مرأى العالم تُدار معركة موازية لا تقل شراسة معركة الرواية إعلامٌ ممول يبرر القتل ويختزل الإبادة في حق الدفاع عن النفس ويحوِّل الضحية إلى رقم أو اتهام ٠ المال هنا لا يمول السلاح فقط بل يمول الصمت والتضليل وتشويه الحقائق واحتلال العقول قبل احتلال الأرض .
عربياً تتجلى هذه المعادلة بوضوح أشد فقد تحولت الثروة النفطية في كثير من الحالات من فرصة لبناء تنمية مستقلة إلى أداة نفوذ سياسي داخلي وإقليمي .
يجري عالمياً استُخدام المال لشراء الولاءات وتثبيت أنظمة وإسكات معارضين وتمويل صراعات بالوكالة وأحياناً لإجهاض مشاريع نهضوية كان يمكن أن تُغير وجه المنطقة بل وحتى للسيطرة على أحزاب وتنظيمات وإعادة تشكيل خطابها ٠
وفي السياق الفلسطيني والعربي عموماً أثّر التمويل الخارجي بشكل مباشر في القرار السياسي وفي بنية الفصائل وفي استقلالية الموقف ٠ كم من مشروع وطني تراجع لا لضعف عدالته بل لغياب الموارد وكم من صوت صلب خفت لا قناعةً بل اضطراراً تحت ضغط الحاجة والعوز فالفقر لا يصنع الخيانة بالضرورة لكنه يخلق بيئة قاسية تتآكل فيها القدرة على الصمود حتى على مستوى الأفراد التاريخ مليء بقصص مفكرين ومناضلين اضطروا إلى التنازل أو الصمت أو الهجرة لأن الاستقلال المادي شرط أساسي للاستقلال الفكري فالجوع لا يُنتج وعياً حراً والحاجة لا تصنع دائماً مواقف شجاعة ٠
من هنا لا تبدو المقولة الشهيرة من يملك المال يملك القرار مجرد حكمة شعبية بل توصيفاً دقيقاً لبنية العالم الذي نعيش فيه لأن المال ليس قيمة أخلاقية في ذاته لكنه قوة لا هو خير مطلق ولا شر مطلق بل أداة تُستخدم وفق منظومة القيم التي تتحكم بمن يملكه ٠
المشكلة الحقيقية لا تكمن في المال بل في غياب العدالة وفي تحوله من وسيلة لخدمة الإنسان إلى أداة للهيمنة عليه ومن رافعة للتنمية إلى سلاح لإخضاع المجتمعات واحتلال وعيها إن إنكار هذه الحقيقة لا يُنتج خطاباً أخلاقياً أنقى بل خطاباً هشاً عاجزاً عن تفسير الواقع أو تغييره فالتغيير الحقيقي لا يبدأ بإنكار أدوات القوة بل بفهمها وكشف مساراتها وفصل السياسة عن الارتهان المالي والإعلام عن التمويل الموجَّه دون ذلك ستبقى الديمقراطية شكلاً والإعلام واجهة والقرار بيد من يدفع أكثر لا من يملك الحق



















