'بؤس التاريخ' رؤية نقدية قاسية للبحث في ماضي المغرب

سعت "المدرسة التاريخية المغربية الحديثة" منذ السنوات الأولى لاستقلال المملكة المغربية، إلى إعادة تملك ذلك الإنتاج الوثائقي، وتأسيس كتابة وطنية للتاريخ والمجتمع حسب تعبير جرمان عياش. واستمر الأمر كذلك في عدة أطروحات ودراسات علمية تنتمي إلى كل فروع العلوم الإنسانية إلى حدود اليوم.
في كتابه “بؤس التاريخ.. مراجعات ومقاربات”، يقدم الكاتب محمد حبيدة رؤية أخرى لتجربة البحث التاريخي في الجامعات المغربية وخارجها، خلال الخمسين سنة الماضية. رؤية نقدية تصل إلى حد القسوة، لكن بأسلوب منهجي، يسعى من خلالها الكاتب إلى اقتراح مجموعة من المراجعات.
وكما جاء في المقدمة، الكتاب تشكله ثلاثة أقسام رئيسية، تهم قضايا البحث في تاريخ المغرب. وهو في الأصل مجموعة من المقالات، نشرت في مؤلفات جماعية ومجلات وطنية، إضافة إلى مساهمات معروضة في ندوات دولية.
تراجع البحث التاريخي
يرى محمد حبيدة في كتابه، الصادر مؤخرا عن دار الأمان بالرباط، أنه إذا كان قد تحقق تراكم ملموس، خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، في موضوعات انطلقت من أدوات منهجية رصينة، وأنتجت أفكارا هامة، فأسست مرجعيات رئيسية لفهم تاريخ البلاد في مستويات عدة، فإن التراجع في حقل البحث التاريخي هو السمة البارزة خلال العشرين سنة الأخيرة.
فمنذ تسعينات القرن الماضي -بحسب المؤلف دائما- أنتجت دراسات كثيرة، اهتمت بموضوعات مختلفة، “بدت وكأنها تعالج مجالا بكرا، مع العلم أن تراكما كبيرا كان قد حصل في هذا الموضوع أو ذاك، يستلزم الرجوع إليه ومحاورته، وربما انتقاده وتجاوزه، إن كانت الفكرة نيرة والمقاربة وجيهة. وهذا القفز لا يخلو من كسل فكري في الكثير من الأحيان، إما لقصور لغوي، أو لموقف مسبق من الإنتاج الكولونيالي”.
أحكام القيمة من شأنها أن تفقد الكتابة التاريخية رصيدها العقلاني وتبعدها عن منطق المدارس التاريخية العصرية
أحكام القيمة
يتساءل حبيدة في كتابه أمام العديد من المعطيات “كيف لنا أن نتصور دراسة نوعية حول تاريخ قبيلة ما، أو مدينة ما، أو مؤسسة دينية ما، تنطلق من مجموعة من المصادر وتهمل التراكم الذي خلفته مثلا الدراسات الكولونيالية أو الدراسات ما بعد الكولونيالية، الأنجلوساكسونية بالخصوص”.
ينبه محمد حبيدة إلى أن البحث التاريخي داخل الجامعة المغربية بدأت تتسرب إليه أحكام القيمة ذات الشحنة الدينية أو القومية. وهي أمور من شأنها أن تفقد الكتابة التاريخية رصيدها العقلاني، وتبعدها عن منطق المدارس التاريخية العصرية، وتعيد الكتابة إلى درجة الصفر.
كما يصف المؤلف البحث التاريخي في الجامعات المغربية خلال العقدين الأخيرين بالعشوائي. وهو أمر لا يرجع إلى تعدد شعب التاريخ في الكليات الناشئة فقط، بل هو موجود حتى في قلب الكليات ذات التراكم المعرفي، مثل كليتي الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط وفاس.
أمام هذا الوضع، أو بداية التراجع على حد تعبير عبدالأحد السبتي، تتضح هذه الهشاشة -من خلال التوصيفات التي يشير إليها المؤلف- في غياب بنيات للبحث تؤطر الباحثين، وإهمال اللغات الأوروبية، إضافة إلى ضعف المتابعة النقدية للأعمال المنجزة.
التاريخ لا يستقيم إلا بالاحتكاك بـ"المعارف متسعة الفضاء"
الكتابة صناعة
يقول محمد حبيدة في كتابه “يحصل كل هذا، على الرغم من وجود مؤرخين كبار أسسوا لموضوعات جديدة بأدوات منهجية رصينة ورؤية معرفية عميقة. لكن تأثيرهم ظل محدودا، لأنهم لم يخلقوا مدرسة تاريخية فاعلة”.
هنا يشير المؤلف إلى عبدالله العروي، إذ عجز تلامذته والذين اشتغلوا تحت إشرافه، عن خلق تيار قائم الذات ومؤثر في الساحة الجامعية، “لأن هؤلاء لم ينتبهوا في أعماله إلا لقضية تخليص التاريخ من النظرة الاستعمارية، ولم يهتموا بمقاربته للتاريخ باعتباره إسطوغرافيا بالأساس”، أو ما يسميه العروي نفسه بـ”التاريخيات”.
هذه المعاينة لبؤس معرفي يشهده الجميع، لا يحاول من خلالها محمد حبيدة أن يقدم بديلا، بل كل هذا العرض هو بالأحرى تساؤلات ومراجعات ومقترحات. وهي رغبة في فتح البحث على تراكمات أخرى، ومقاربات أخرى، ومناهج أخرى، قصد تجاوز الانحباس الذي يعرفه الكثير من الأبحاث التاريخية المغربية، ليس بالالتصاق بالوثائق والبحث عن وثائق جديدة، لأن ذلك هو الذي يفسر كيف تبقى المعرفة التاريخية معرفة ناقصة.
لذلك يشدد المؤلف على أن تطور هذه المعرفة يظل مرتهنا بالاحتكاك بنتائج العلوم الاجتماعية واستخدام أدواتها ومفاهيمها. هذه الأخيرة بدرجة أساسية هي التي تميز التاريخ عن الوثائق، وتمكن المؤرخ من الحديث بلغة مغايرة عن لغة الإخباري.
كما يدعو حبيدة إلى ما سبقه إليه ابن خلدون في المقدمة، وهو أن التاريخ لا يستقيم إلا بالاحتكاك بـ”المعارف متسعة الفضاء” و”النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء”، وأن “الكتابة صناعة من بين الصنائع”، مع ما تقتضيه من ملكة وسعة اطلاع.
العرب اللندنية



















