المهندس سامر المجالي يكتب |.. فيلم "أميرة".. الفن في سياقات بائسة

حضرتُ منذ ثلاثة أيام حوارية مع مكادي نحاس في منتدى شومان الثقافي.. ذاك المساء طرحت مكادي سؤالًا جوهريًّا عمّا قدمه المغنون والمغنيات العرب من قيمة فنية خلال السنوات العشرين الماضية، سوى تضخم أرصدتهم، وجمال مظهرهم الذي يزداد شبابًا عامًا بعد عام (بحسب وصفها).
لم يكن هناك من جواب سوى ما ندركه جميعًا من انفصال الفنّ عن الواقع، وخضوعه للعبة رأس المال التي حوّلتنا جميعًا إلى أقنان يعملون من أجل رفاهيتها!
لعل هذه الرؤية تفسر شيئًا من الموقف المتخذ بخصوص فيلم "أميرة"..
يقدّمُ الفيلم قصَّة مستوحاة من الظاهرة المعروفة بـ"أبناء الحرية"؛ أي الأطفال الذين يولدون لأسرى فلسطينيين في السجون، عبر تهريب نطف الآباء إلى أرحام زوجاتهم، في عملية حذرة محاطة بكثير من الغموض والسريّة.
يقرر الأسير "نوّار"، وزوجته "وردة" أن يكررا محاولتهما الأولى التي أثمرت ابنتهما "أميرة"، وهي فتاة في الخامسة عشرة من عمرها جاءت إلى الدنيا عبر نطفة مهربة زُرعت في رحم أمها العذراء التي اعتُقل زوجها قبل أن يدخل بها. تصل النطفة الجديدة إلى المستشفى الذي ترقد فيه الأم بانتظار بدء الإجراءات الطبية المعتادة، غير أن الفريق المخوّل بإجراء العملية يكتشف عند فحص العينة المهرَّبة أن صاحبها عقيم، وأن عقمَه هذا ليس أمرًا طارئًا عليه، بل هو صفة ملازمة له منذ بلوغه؛ ما يعني أنه لم يكن في أي وقت من أوقات حياته قادرًا على الإنجاب.
تسبّب هذه الحقيقة صدمة للجميع، وعلى رأسهم "أميرة" المتعلقة بـأبيها، و"وردة" المخلصة والعذراء رغم أنها أمٌّ لفتاة في الخامسة عشرة، وللأهل جميعًا: والدة نوار، وأخويه سعيد وباسل، وسليمان أخي وردة، فتتجه أصابع الاتهام إلى الجميع؛ إلى "وردة" بالذات وكل فرد من الأفراد المحيطين بها حتى أخوي زوجها. وسط هذه الملابسات تصرُّ وردة على الصمت، إذ تدرك دون غيرها أن ثمة من عبث بالنطفة التي وُضعت في رحمها حين حملها الأول، فلا يكون هناك إلا تفسير منطقي واحد هو "الحارس" الإسرائيلي الذي ساعد آنذاك في تهريب العينة، فاستبدل نطفته هو بنطفة "نوار"، ما يعني أن "أميرة" ابنة عسكري يهودي، وليست ابنة مناضل فلسطيني يدفع سنوات حياته في السجن ثمنًا من أجل قضيته.
تقرر أميرة أن تنتقم من أبيها الحقيقي، فتهرب عبر جدار الفصل العنصري إلى الداخل الفلسطيني وفي يدها مسدس تريد أن تقتل به أباها اليهودي، غير أن الجنود الإسرائيليين يرونها فيلاحقونها، ويردونها قتيلة حين رفضت الاستجابة لأوامرهم بالتوقف.
تلك قصة الفيلم باختصار، وهو عمل بصري جميل، شابته أحيانًا سذاجة في الحوارات، واحتوى على مشاهد مبتذلة، كمشهد اتصال نوار بأميرة عبر التليفون حين أراد (استخراج) العينة التي ستُهرَّب. وفيه كذلك أداء غاية في الروعة، كأداء صبا مبارك حين جلوسها أمام زوجها في لقاءات السجن، أو المشهد الختامي في الفيلم، حين يقف الأب اليهودي "إيتاي" أمام جثمان "أميرة" موجهًا إليه نظرة فيها مزيج من الذهول والشماتة بمصير تلك الفتاة المسكينة.
المهم في الموضوع أن الفيلم قدَّم موقفًا محايدًا من القضية كلها؛ بل إن الدخول في "رمزياته" قد يوقع مؤلفه في ورطات تأويلية من شاكلة سيطرة اليهود على أدق شؤون الفلسطينيين، وجعلهم "قَدَرًا" لن يستطيع الفلسطينيون منه فكاكًا. بيد أن لقاء أُجري مع مخرجه محمد دياب على قناة العربية في شهر سبتمبر الماضي يكشف وجهًا ساذجًا أيضًا من وجوه التناول، فقد صرَّح دياب أنه حين سمع بقصة تهريب النطف التي تجري في فلسطين، وجد أن القصة تصلح لأن تُبنى عليها دراما مذهلة، فألَّف الفيلم بمشاركة آخرين من عائلته. هذا يعني أن القصة رُكبت بناء على عنوان عريض سمع به المؤلف عن بعد، فلم ينظر في ملابسات الحدث وما يتصل به من أبعاد وحساسيات، لذا جاء العمل بعيدًا عن الواقع ومليئًا بالمغالطات، مثل: عمر أميرة التي هي أكبر من أول طفل فلسطيني وُلد بهذه الطريقة بخمس سنوات على الأقل، وتفاصيل تجهيز الزوجة التي تتطلب أسابيع قبل تنفيذ عملية التهريب، ووجود شهود من عائلتي الزوج والزوجة في كل مرحلة من المراحل بدءًا من الموافقات وصولًا إلى لحظة توثيق العينة وزرعها في الرحم، والأهم من ذلك كله نسبة المواليد إلى آبائهم الحقيقيين مهما كانت التبعات، بعكس ما ورد في الفيلم من نسبة أميرة، في الأوراق الرسمية، إلى عمّها سعيد.
هذا البعد وعدم الواقعية أثارا حساسية لدى المتلقي الفلسطيني والعربي بشكل عام؛ إذ إن القضية تندرج في إطار "المقدس"، وهي قداسة وجيهة ومستحقة، وتتصل بنضال وتضحيات قلَّ أن يجود شعب بمثلها في سبيل وطنه.
غير أن تلك الحساسية تضاعفت بسبب ما ذُكر في الفقرة الأولى، فثمة انفصال إنساني ووجداني بين النخب بجميع أشكالها (الفنية والسياسية والإعلامية) وجموع الناس الذين لم يعودوا يثقون بما يُقدَّم إليهم من قِبل هذه النخب، بل إن الشك هو رأس الأمر كله بين الطرفين، في ظل حالة الانبطاح غير المسبوقة التي يعيشها العرب على المستوى السياسي ويخدمها الفن عن طيب خاطر؛ حالة محيرة يختلط فيها التطبيع بالترفيه بالفقر بالفساد بالبطالة بمحو الهوية، في تجليات تتوالد يومًا بعد يوم، ويخسر فيها العربي آمانه النفسي والعائلي ليغدو كائنًا معولمًا منتهكًا كادحًا لا يملك من أمره شيئًا.
عندئذ، يمكن لنا أن نتصور موقفًا من هذا النوع، ونقر بأن إنسانًا يعيش هذه الظروف، لن يستطيع النظر إلى الفن بوصفه رفاهية؛ فالفن من أجل الفن غير ممكن وسط القهر والاستبداد، ولا يمكن له أن يتعايش جنبًا إلى جنب مع سطوة المال الذي يأكل الأخضر واليابس، ويحيل الفنانين والمخرجين إلى أراجوزات، يلهثون وراءالأضواء، والشهرة والجمال والمال، مهما كان الثمن الذي يقدمونه لأبالسة الاقتصاد والسياسة.
قد لا يكون هناك سوء نية، لكن الشيء المؤكد أن نخبنا لا تستحق ثقة من أي نوع..


















