د. عبدالله الطوالبة : معركة الكرامة والأسئلة المعلَّقة.

باهتٌ. هزيلٌ. ضعيفٌ ومتلعثمٌ كان رد الحكومة على هلوسات الوزير الصهيوني سموتريتش تجاه الأردن. لا يكفي استدعاء سفير الكيان، ذي الوجود غير الشرعي أصلاً في عمان بنظر غالبية الأردنيين. كان رد حكومة السلطة الفلسطينية، وهي في فم الحوت عملياً، أقوى وأفعل. ما الذي حال دون خروج رئيس الحكومة ببيان يدحض أباطيل التيار الصهيوني العريض بالمناسبة، الذي يمثله هذا المأفو؟ أين مجلس النواب، وأين الأحزاب السياسية والفعاليات الشعبية؟!
من تصاريف الأيام أن تأتي تصريحات المأفون متواقتةً مع ذكرى معركة الكرامة، وكأنها تنبئنا بأن الصدام مع الكيان العدو قادم لا محالة. وتلك حقيقة لا يغفل عنها على طريقة النعامة المعروفة، إلا فاقد للبصيرة السياسية أو جاهل بطبيعة كيان شاذ لسان حاله لا يفتأ يردد منذ 1948:" أنا أُحارب، إذن أنا موجود".
مرجعنا الرئيس في كل ما نكتب عن معركة الكرامة، أحاديث قائدها الفريق الركن مشهور حديثة الجازي في الصدد، وقد أدلى بها لفضائية "الجزيرة/برنامج شاهد على العصر"، موزعة في حلقات عدة. اللافت عن جد، أن رواية قائد المعركة غير معتمدة فيما ينشره الإعلام الرسمي الأردني سنوياً إحياءً لذكراها. هنا، يفرض نفسه أول الأسئلة الماتزال معلقة تبحث عن إجابات تجلي المخفي خلفها.
بدأ الكيان يحشد باتجاه الأغوار آنذاك، بعد عملية فدائية استهدفت حافلة في مستعمرة "تمناع" في منطقة عين يهف، كانت نتيجتها الإجهاز على ركاب الحافلة كلهم. وقد خطط العدو لتحقيق هدفين رئيسين: الأول، إقامة "شريط حدودي" كما فعل في جنوب لبنان، وهو ما يعني احتلال جبال السلط. والثاني، تصفية الوجود الفدائي الفلسطيني في الأغوار. كان قوامُ هذا الوجود 1400 مقاتل، ينتمون إلى فصائل ثلاثة: حركة فتح والجبهة الشعبية وقوات التحرير الشعبية قبل انضمام حركة فتح لها. تواجد الفدائيون بشكل رئيس في قرية الكرامة، ومنطقة الكريمة، وفي غور الصافي. كان أفضل ما بمقدورهم فعله بالحسابات العسكرية البحتة، الانتشار خارج قرية الكرامة. ففي ضوء امكاناتهم التسليحية المحدودة للغاية، فإن دخولهم في مواجهة مباشرة مع جيش العدو إلى الإنتحار أقرب.
بعدما تأكدت نوايا العدو، اختلف قادة الفصائل بخصوص كيفية المواجهة، وهم ياسر عرفات ووجيه المدني وبهجت أبو غربية ويحي حمودة. الوحيد من بين هؤلاء، الذي كان على علمٍ بأن الجيش الأردني سيتدخل كان ياسر عرفات، لكنه احتفظ بهذه المعلومات لنفسه، على عهدة مصادر مطلعة، ولم يأتِ على ذكرها خلال المناقشات مع قادة الفصائل.
بعد أن بدأت المعركة، انسحبت قوات ياسر عرفات من قرية الكرامة، رغم الاتفاق بين قادة الفصائل على المواجهة، وبقيت أعداد محدودة من الفدائيين داخل الكرامة. ليس لدينا جواب على سؤال: لماذا اتخذ عرفات هذا القرار، وإن كان تفهمه ممكناً، بل وممكناً جداً. فلا يعقل مواجهة جيش العدو المدجج بأحدث الأسلحة البرية والجوية برشاشات كلاشينكوف وقنابل يدوية.
ما لم تكن اسرائيل تحسب له حساباً، كان تدخل الجيش الأردني. وتُجمع على ذلك المراجع كلها، بما فيها الصادرة في الكيان. فقد اتخذ القائد العسكري مشهور حديثة الجازي قراره بالإشتباك مع القوات الإسرائيلية المتقدمة وقصف تجمعاتها وأرتال دباباتها بالمدفعية. قرر الجازي مواجهة قوات العدو بالوحدات العسكرية النظامية، التي كانت بإمرته. بعد وقوع خسائر كبيرة في صفوف العدو، حيث احترق بعض جلاوزته داخل مجنزراتهم، طلبت إسرائيل وقف إطلاق النار. اسرائيل تطلب وقف إطلاق النار، وفي تلك الآونة، خلال أول مواجهة مع جيش عربي بعد هزيمة 1967 الفادحة. يرد الفريق الركن مشهور حديثة على سؤال مذيع "الجزيرة": هل تلقيت أوامر بوقف إطلاق النار، بالقول: "كان ردي على طلب العدو وقف إطلاق النار بالمزيد من القصف". هنا نأتي إلى سؤال الأسئلة المعلقة، في ضوء تعدد الروايات بخصوص: هل تلقى الجازي أوامر بوقف إطلاق النار في معركة تدور رحاها على أرضٍ أردنية، ورفض الإلتزام بتلك الأوامر حتى خروج آخر معتدٍ صهيوني منها، أم أن ما يُقال في هذه الجزئية عارٍ عن الصحة؟
لم يشأ المرحوم الفريق الجازي في شهادته على العصر الإجابة مباشرة على هذا السؤال، وهو ما يضفي عليه مشروعية الطرح، لكنه اكتفى بالرد المومأ إليه فوق:"كان ردي بالمزيد من قصف مواقع العدو".
أثنى الفريق الجازي رحمه الله على دور المجموعات الفدائية المتبقية في منطقة الكرامة، ليؤكد وحدة المصير بين شعبين شقيقين في مواجهة عدو مشترك. يقول الجازي بهذا الصدد: التحم الجندي والفدائي والمزارع، وسال الدم الأردني الفلسطيني دفاعاً عن تراب الوطن".
كانت معركة الكرامة حدثاً عظيماً وفاصلاً في تاريخ الصراع مع كيان متغطرس، تكمن عظمتها بكسر هيبة الجيش الصهيوني الذي قيل انه لا يُقهر وتأكيد حقيقة أن الجندي العربي بمقدوره كسر أنف العدو إذا توفرت له الظروف المناسبة وحرية الحركة خلال المواجهة.
في ضوء هذه الحقيقة التاريخية وبروحها، كان يفترض أن يكون رد الأردن الرسمي على هذيان الصهيوني المأفون سموتريتش، ولكن…!
وأنت عزيزنا القارئ، هل تؤيد إدراج هذه ال"ولكن"، التي ختمنا بها ضمن أسئلتنا المعلقة الباحثة عن إجابات قاطعة؟!



















