جولان الواوي : أمي كانت تحذرني من عاطفتي المتدفقة .

كانت أمّي حازمة في تربيتي إلى حد ما، طالما حذّرتني من مشاعري الجياشة وعاطفتي المتدفقة، كانت تخاف أن تجرفني مشاعر الحب إلى الهاوية، أو أن تنال مني قسوة الحياة..
تنظر إليّ وأنا أبكي وتطلب مني أن أمسح دموعي، "لا تُظهري ضعفك لأحد" تقول ، ولا" تتسولي اهتمام النّاس"..
لم تكن مثل أبي، تُلبّي لي أحلامي و تعتبر رغباتي من المسلّمات، وكثيراً ما سمعتها تقول لوالدي في السرّ، "أنت تُفسدها بدلالك، هي لن تبقى عندك للأبد"
عندما كنت أضحك بصوت مرتفع، تبتسم ابتسامة موناليزية، وتنظر في وجهي طويلاً، وعندما كنت أُبالغ في الثناء على أحد، تُمسك يدي وتهمس دون أن تنظر إلي"أَحبب حبيبك هوناً ما"
كنت أشعر أحياناً بأن أمي لا تُحبني مثلما أُحبها، فطريقة تعبيرها عن المحبة عكس طريقتي، ورغم أنها كانت تتحول أحياناً إلى كُتلة من المشاعر عندما أمرض أو أنطوي على نفسي بسبب خيبة ما، إلا أنها تعود إلى رزانتها في الحب، إذا صحّ التعبير..
تخلّت أمي عن حزمها في الأيام القليلة التي سبقت زفافي، وكنت أراها تبكي وأنا أجرّب بدلتي البيضاء، وأعدّ حقائبي للسفر، ويوم عرسي، انهارت، فانهار معها الجدار الذي كنت أظنّه بيننا..
تعذّبت في سنتي الأولى من الزواج لفرط اشتياقي إليها، كنت أسألها عن طريقة أستجمع فيها قوتي وأتغلّب على ضعفي أمام التغيرات الكثيرة التي اقتحمت عليّ حياتي، الغربة و الزواج و الأمومة، لكنها كانت تهزّ رأسها في يأس و كأنها تقول بأنني لن أنجو من عاطفتي يوماً..
لم أترك فرصة لم أُعبر فيها لأمي عن حُبي و شوقي المُلتهب الدائم لها، لكنها في كل مرة تنصحني بضبط مشاعري و التفكير بزوجي و أولادي والرجوع إليهم دون إحساس بالندم على عدم البقاء معها..
ومثلما تميل النخلة العظيمة في مواجهة الريح، ومثلما مالت أمي يوم زفافي ثم عادت لتصدّ عني هبوب الرياح الجارفة، مالت مرة أخرى و أخيرة..
كنت في زيارة قصيرة لها، ويوم السفر، توقعتها تودعني مثلما تفعل، أن توصيني ببيتي وتقول "زوجك وولادك أولى فيكي" لكنها قالت:"يالله يا حبيبتي ، صرتي بدك تسافري، ما شبعت منك يا ماما"
وأنا ، التي كنت أظنّ بأنني ملكة المشاعر والأحاسيس، لم ينتابني الشكّ بأنه سيكون الوداع..
رحلت أمي بعد ذلك بشهرين، وكانت تلك المرة الأخيرة التي أراها فيها، كانت تلك الدموع العزيزة آخر ما حملته على كتفي منها، وكأنها عرفت بأنني سألجأ في كل مرة إلى آخر وداع بيننا ، فأرادت أن تخبرني بطريقتها، بأنها أحبتني أكثر مما أحببتها..
كانت تُخفي شوقها إليّ، في حين كنت أبذل أشواقي ودموعي هنا وهناك، وشتّان، بين قلب يكتم حبه، وقلب يتفجر بمحبته في كل حين..
ليتني مثلك يا أمي، ليت قلبي يُغلق أبوابه على من فيه دون ضجيج، ليتني أتوقف عن حمل قلبي خارج صدري، و أكفّ عن تسول حب الذين يعجزون عن التعبير بمثل طريقتي، ليتني أجدّ طريقة تحميني من مشاعري قبل أن تُهلكني كمداً على من لا يفهمها، و لا يدرك بأن الحب يقتل صاحبه لا محالة..
جولان_الواوي



















