عاجل | في خلاصات أزمة المطعوم … رسائل للحكومة والأهالي.

لم يقف ملف التباين حول حملة التطعيم التي أقرتها الحكومة للوقاية من انتشار مرض (الحصبة) الخطير عن حدود التشكيك أو الخشية، بل تجاوزت ذلك لتأخذ شكل الأزمة الحقيقية .
معارضو الحملة ركزوا على معارضة نوع المطعوم المنوي استخدامه ، لا على جدوى أو ضرورة إطلاقها ، بل وعبروا عن ثقتهم باستراتيجية الدولة فيما يخص الوقاية من الأمراض وإقرار حملات التطعيم ، فضلاً عن البرنامج الوطني للتطعيم والذي يشتمل على 12 مطعوماً تعطى بشكل مجدول في المراكز الصحية المنتشرة على امتداد المملكة وتغطي كل من يعيش على أرضها ، ما أعطى موقفهم زخماً عبر إخراجه من دائرة التشكيك أو الرفض العبثي المتعمّد ، لكن أصواتاً مناكفة و محاولات المصطادين في الماء العكر الموجودين في كل مجتمع من أصحاب الأجندات أو الساعين إلى تصفية حسابات ضيّقة مع مسؤول هنا أو وزير أو جهة رسمية هناك أضافوا إلى المشهد هامش تخويف وتضليل جعل المواطن الأردني في حيرة وشك فاقمه شعورٌ عام بقلة الثقة بالحكومات سبّبته عوامل الضيق وتدهور الواقع المعيشي وغياب الحلول الناجعة لمشاكل المواطن المباشرة وفي مقدمتها الوضع الاقتصادي رغم كثرة الوعود والالتزامات .
الجانب الرسمي بدوره حاول الدفاع عن الحملة وعن المطعوم وساق مسؤلون ومختصون في سبيل ذلك سيلاً من الحجج والاستدلالات لتأكيد وجود خطر انتشار الحصبة ولتبرير اختيار هذا المطعوم بعينه ومن هذه الشركة بالذات ، لكن ذلك لم يخلُ من ثغرات جعلت الرواية الرسمية ، شكلاً ومضموناً، قاصرةً عن حسم الجدل أو التردد الشعبي، أقلّه في أذهان المواطنين الذين تعدّل مزاجهم تجاه القضية ، لكن نسبة وازنة منهم لازالت ضمن شريحة الرافضين ، وإن ضمنياً على الأقل، وتحت منطق ( درء خطر مفترض خيرٌ من تجربةٍ لم نتيقن بعد من مأمونيتها) .
نظرياً مرّت الأزمة بأربعة منعطفات: إعلان الحكومة عن تطورات انتشار الحصبة في المحيط وتسجيل عشرات الحالات في المملكة بدءً من شهر نيسان الفائت ، ثم إطلاق الشائعات وخطابات التشكيك، ثم المواجهة الأولى والتي امتدت إلى عدة جولات خسر الجانب الرسمي معظمها أمام التشكيك وفوضى المعرفة التي ساهمت في تعميقها فوضى الفضاء الافتراضي واستحواذه على ثقة شعبية غير منطقية ، فالحسم النهائي الذي تتوّج عبر المؤتمر الصحفي الذي عقد أمس الأحد في وزارة الصحة والذي بدّد الكثير من الشكوك وأظهر أخيراً نجاحاً في تنسيق الجهود بين المؤسسات المعنية للخروج بتصوّر وموقف موحّد بني على أسس علمية واضحة ، فضلاً عن مشاركة القطاع الخاص والغطاء القضائي الذي يواكب الحدث بمنأى عن منطق الانتقام أو تكميم الأفواه أو الإدانة المسبقة،( حيث أعلن عن التحقيق في قضايا نشر الشائعات ، لا إلقاء القبض أو معاقبة فلان أو الجهة الفلانية مثلاً) .
إذاً نجحت الجهات الرسمية المعنية في تفكيك الأزمة وفي توضيح وجهة النظر الرسمية بشكل يقطع الشك ويعزز الموقف الشعبي تجاه الحملة واللقاح المعتمد ، لكن ذلك لايمنع من الإشارة إلى جملة من النقاط أو الخلاصات لابد من لفت نظر الجهات الرسمية إليها ، أملاً في الاستفادة لتجنب أزمات مشابهة يمكن لصوتٍ عابر أو حاقد أو حتى جاهل أن يخلقها في زمن نحن في أمس الحاجة فيه لتكاتف الجهود لمواجهة أزمات حقيقية عميقة نعيشها كجزء من العالم أو المحيط الملتهب أو بحكم الظرف الموضوعي الذي يعاني مايعانيه:
في الملاحظات على المقاربة الرسمية تجاه الأزمة أولاً التأخر في التقاط بواعثها ، حيث كان على الجهات المختصة تقدير المسار الذي تتخذه الأمور ومحاصرتها قبل أن تتحول إلى أزمة بهذا الحجم وهو مايمكن تفسيره من زاوية السلوك الشعبي تجاه التفاعل على وسائل التواصل مابعد قانون الجرائم الإلكترونية الجديد والذي بات يحدّ من القدرة على قراءة المزاج العام المحجم أو المتردد في التعبير ضمن الفضاء الافتراضي ، ثم ثانياً بدا غياب التنسيق المطلوب بين المؤسسات واضحاً وهو ما يبدو أن وزير الاتصال الجديد يأخذه في حسبانه، وثالثاً كان لفوضى التصريحات المدافعة عن الحملة والمطعوم دور في تشتيت الجهد وإضعاف الرواية الرسمية ، سيما وأن التشتت والارتجال والتطوع للدفاع عن القرار الرسمي يخلق شعوراً عاماً بضعف الرواية أو العجز عن إيصالها، خاصةً حين تلجأ بعض الأصوات إلى المناكفة والاستقواء على الرأي المعارض، وهو مايستفز الناس ويخلق شكلاً من المواجهة الوهمية يميل الناس - في كل المجتمعات- إلى تبني موقف مسبق مخالفٍ لموقف المدافعين بهذه اللهجة عن الحكومات ، ورابعاً وهو الأهم أن الحكومة قد اتخذت فوراً موقف الدفاع بدل تكثيف الموقف والحجة بمعزل عن روح المناكفة أو الانجرار إلى خوض سجالات تضع الحكومة بقدّها وقديدها في الميزان مع أصوات ثبت أن بعضها غير برئ ، ناهيكم عن أخرى ثبت أنها غير مؤهلة، وهو مافتح باب الحديث عن عجز في فهم اللغة التي تصلح للحديث مع الناس وإيصال الرسائل بالمنطق الذي يناسبهم ويلقى آذاناً صاغية.
وهنا واستكمالاً للنتيجة التي بلغها الأمر والتي رجّحت أخيراً كفة الثقة الشعبية بحملة التطعيم ولقاحه المعتمد نورد النقاط التالية في سياق قناعتنا بضرورة ومأمونية أخذ المطعوم ودعم حملة التطعيم، والتي كان التركيز عليها وتبسيطها سيوفر كثيراً من الجهد والوقت والاصطفاف - ونحن الذين كنا في (بلكي نيوز) من أوائل الذين طرحوا الاسئلة وبحثوا في المعطيات سعياً وراء الموقف الصائب السليم - :
لابد من التفريق بين البرنامج الوطني للتطعيم وبين حملات التطعيم : فالأول برنامجٌ مُقر من عشرات السنوات ويشمل التطعيم ضد 12 مرضاً ويخضع له كل من يقيم في المملكة ويبدأ من الطفولة ويخضع للمراجعة والتقييم بالتعاون مع المنظمات الدولية المعنية ، وهو ثابت ويمضي في إطار من السلاسة والمأمونية حد الثقة الشعبية المطلقة ، فيما تُطلَق حملات التطعيم لأسباب آنية ، طارئة أحياناً، كانتشار أمراض معينة كما في جائحة (كورونا) وانتشار مرض (الحصبة) اليوم، ولإطلاق أية حملة يتم دراسة المرض المستهدف واللقاحات المعنية بالوقاية منه وتجارب الدول وتوصيات المنطمات الدولية الموثوقة وصولاً إلى وضع خطة عمل أو استرتيجية مواجهة.
عند اختيار لقاح ما وبعد استيفاء البحث المعمّق في مأمونية وفعالية وثبات الخيارات المطروحة جميعاً يجري البحث في التفاصيل الأخرى المهمة أيضاً والمتعلقة بالسعر وسهولة الوصول وتعاون وصدقية دولة الانتاج ومصدره ، وهي من واجبات الحكومة التي تضطلع بها في كل الملفات المماثلة (كالأدوية والمستلزمات أو المواد التي تتكفّل الدولة بتوفيرها مجاناً) .
إن تسجيل أي منتج من المنتجات التي تدخل في صلب اختصاص (المؤسسة العامة للغذاء والدواء) ومن ضمنها اللقاحات والأدوية هو إجراء إلزامي في حال رغبة جهة ما توفيره في السوق الأردنية لغايات البيع ، أي ان إجراءات التسجيل تبدأ حين تتقدم شركة ما أو وكيل مسجَّل بتقديم طلبٍ لاستيراد منتج وتداوله في السوق الأردنية ، فيخضع المنتج المعني لسلسلة الإجراءات والاختبارات المعتمدة لدى المؤسسة ، وهي ذات الإجراءات التي يخضع لها أي منتج تتقدم جهة بطلب الموافقة على استيراده ، أي ان التسجيل متطلبٌ للتداول التجاري المستند الى أحدى مهام مؤسسة الغذاء والدواء المتعلقة بمنح التراخيص أو الموافقات ، ولا يعني عدم تسجيل منتج ما أنه لايحظى بذات الاهتمام او الفحص او التأكد ، فالكثير من الأدوية والمنتجات التي تضطر مؤسسات (كمركز الحسين للسرطان) و(المركز الوطني للسكري والغدد الصم والوراثة) مثلاً لاستيرادها مباشرةً نتيجة عدم وجود وكيل تجاري يوفرها في السوق المحلية يجري استيرادها عبر آلية طلب الموافقة على الاستيراد دون الاضطرار إلى تسجيلها ، سيما وأن أي جهة تجارية لاتجد مصلحة في تسجيل دواء أو مطعوم لايحقق منفعة تجارية كأن يكون غير قادر على منافسة المنتج المحلي مثلاُ أو لايستخدم الا ضمن مؤسسات الدولة أو يتوقف استخدامه على احتمال قد لايتحقق قبل انتهاء صلاحيته (كالمطاعيم المستخدمة عند الحاجة (مطعوم الحصبة) والذي لولا الانتشار المفاجئ لما استدعت الحاجة استخدامه لسنوات ربما .
لماذا تطلق الحكومة حملات التطعيم ؟ بل ولماذا تقر أصلاً برنامج التطعيم الوطني سيما وأنها مكلفة ومرهقة؟ : تُقرّ كل دول العالم برامج وحملات التطعيم كجزء من واجبها تجاه المواطن (لا حقها عليه) ، فضلاً عن القرارات والاستراتيجيات الدولية التي توصي بذلك بل وتفرض بعضه أحياناً ، والأهم أن الدول معنية بالوقاية من أية أمراض خطيرة أو جوائح لحماية المواطنين ولدرء التكلفة البشرية والمالية والاجتماعية التي تفوق تكاليف اللقاحات في حال انتشارها ، أي أن أية حكومة ، شعبيةً كانت ام غير ذلك، تدرك أن مصلحة البلد والمواطنين فضلاً عن الحكومة هي في منع انتشار الامراض والجوائح التي قد تشل البلاد وتعطل مسيرتها وتفرض تكاليف هائلة لن يقبل المواطن عذراً في التقصير في مواجهتها ، وهو مايدخل ضمن استراتيجيات الأمن الوطني، مابرّر جعل التطعيم إلزامياً في كل دول العالم، وهو من التعبيرات المهة عن تكامل الفهم والمصلحة بين الدولة ومواطنيها ، مايعني أن إلزامية التطعيم يجب أن تُقارب من منطلق المصلحة العامة لا منطق المكاسرة مع الحكومة أو الاصطفاف في مواجهة كل ماتتخذه من قرارات.
ليس من الممكن أن ينتشر استخدام دواء أو لقاح ما دون متابعة ذلك من المنظمات الدولية المعنية ، فضلاً عن الدول الرائدة في إنتاج الأدوية والأمصال والتي تحظى شركاتها المنتجة بنفوذ لايستهان به لجهة التأثير لمنافسة أية مصانع منافسة في الانتشار والهيمنة على أسواق عالمية ، مابالكم لو كانت مخالفة او غير مأمونة ، كما أن السياق العام والثقة بسياسات وقرارات المنظمات الصحية الدولية ممتد عبر سنوات طويلة خلت وسيستمر لعقود ، ماينفي إمكانية التفريط بسمعتها وبرامجها بل ووجودها لمجرد تمرير صفقة مطاعيم لبلد بعينه أو غض النظر عن مخاطر قد تصيب متلقي اللقاح من أبنائه ، فلنا أن نتخيّل موقف تلك المنطمات لو حصلت مضاعفات أو نتجت مخاطر من تلقي علاج او لقاح أقرّته بل وساهمت في تسهيل وربما تمويل وصوله للبلد المعني .
تستطيع الحكومة استبدال مطعوم ( Mr) أو إعطاء مطعوم ( Mmr) المعتمد ضمن البرنامج الوطني، لكن اتخاذ القرار بإعطاء المطعوم الثنائي جاء نتيجة رأي علمي وازن مفاده تجنيب الفئة المستهدفة مطعوماً لاضرورة له وهو مطعوم (النكاف) والاكتفاء بمطعوم الحصبة الذي يقي من المرض المستهدف، مضافاً له مطعوم (الحصبة الألمانية) لضمان الوقاية من المرضين ، ذلك أن المرض المنتشر في المحيط قد يكون حصبةً و حصبةً ألمانية حيث يتشابه المرضان كثيراً في الأعراض وسرعة الانتشار فضلاً عن المخاطر.
كما تملك الحكومة استبدال الشركة المنتجة بأخرى طالما والجدل يتركز حولها، لكن اختيارها جرى وفق المعايير المعتمدة حكومياً ، سيما وأن خط إنتاج الشركة معتمد لدى الجهات المختصة كما ان اللقاح ذاته قد جرى اعتماده في حملة سابقة محلياً ، فضلاً عن خضوع الدفعة المزمع استيرادها ستخضع لذات الاجراءات والفحوصات، ناهيكم عن أفضلية السعر المنخفض وإمكانية تعاون منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف في تأمينه وإيصاله ، أي أن كل مايتعلق بالقرار خضع لاعتبارات المصلحة العامة دون أية شبهة يمكن الاتكاء عليها لرفضه.
- ويبقى السؤال الأخير المهم : ما المصلحة التي يمكن ان تجنيها حكومتنا من تطعيم أبنائنا بلقاحٍ مضرّ او خطير ؟ بل وأين ستذهب الدولة من التبعات الهائلة ومن رد فعل الناس لاحقاً لو حصل ضرر ما لاقدّر الله؟ قد يقول قائل ان الحكومة ليست شريكة في هذه (المؤامرة!) بل مغلوب على أمرها أمام (قوىً عظمى!) ، ونسأل هنا : أليست الحكومة نفسها المسؤولة عن برنامج التطعيم الوطني ؟ هل يتوقف أي منا أو يسأل عما يعطى لأبنائنا من مطاعيم حين نصطحبهم عن قناعة وثقة إلى المراكز الصحية لتلقي المطعوم؟ ألم تكن قادرةً على تنفيذ هذه المؤامرة الهوليودية العجيبة دون أن تلفت النظر او تفتح باب الشك والتربص والجدل؟
في الخلاصة نستطيع القول أن الأزمة بمعناها المقلق قد جرى تطويقها ، لكن الوقوف عند أسبابها و اتخاذ مايلزم لمنع تكرارها او حصول غيرها واستيعاب دروسها ضروري جداً ، خاصةً مايتعلق بسرعة الاستجابة وبإيصال الحقائق الواضحة المختصرة إلى أقل مايمكن التي تفي بغرض تقديم المعرفة اللازمة للمجتمع وباللغة المناسبة التي تناسب شعبنا وتراعي خصوصيته ومفاهيمه ، وقبل كل ذلك البدء فوراً في وضع وتنفيذ استراتيجة عامة متكاملة لاستعادة ثقة الأردنيين بحكوماتهم.
يقول وزير الاتصال الجديد (د. مهند مبيضين) في إطلالته الأولى على الجمهور عبر (صوت المملكة) أن تراجع الثقة بالحكومات ظاهرة تعيشها معظم دول العالم مؤخراً ، وقوله صحيح ، لكن العمل على استعادتها بالأفعال وتعزيز الشفافية والمشاركة الشعبية لابد وأن تكون أولوية مطلقة ، فالأزمات التي تواجهنا تستدعي تظافر كل الجهود واستعادة روح المواطن الشريك … في المكتسبات والحريات وفي الدفاع عن الوطن والتنبُّه لما يحيق به من مخاطر، والاستعداد للدفاع عنه.















