+
أأ
-

ضرار البستنجي : قراءة في الخطر على الأردن

{title}
بلكي الإخباري









ليست هذه المرة الأولى التي يختبر فيها (الأردن) تهديداً حقيقياً ، ومن مشروع العدو المتربّص غربيّ النهر تحديداً ، لكن التهديد مختلف هذه المرة ؛ مباشرٌ و وجودي وفي أحلك الظروف ، فهو يتعدى طلب (ترمب) من (الأردن) و(مصر) استضافة الاشقاء المراد تهجيرهم من (غزة) - على خطورته - ليرقى لمستوى تصفية القضية الفلسطينية وإطلاق المشروع الخطير الكبير، فغزة مجرد بداية، وفيما شهد العالم كله بطولة أبناء القطاع الصامد وتمسكهم بأرضهم يدرك الجميع أن الرهان المستحق عليهم لايعني تركهم لقدرهم في مواجهة سلاح الجوع والحصار وغياب سبل الحياة الذي لايقل خطراً عن سلاح القتل بالصواريخ والدبابات ، سيما وأن (ترمب) العائد إلى البيت الأبيض بقوة إرثه العدائي العنصري السابق وبإحكامه السيطرة على الحزب الجمهوري ونجاح الأخير بحصد الأغلبية في الاستحقاقات الانتخابية يرغب في إرساء المشروع القديم المتجدد؛ (الشرق الأوسط الجديد) وهو الذي عبّر صراحةً خلال حملته الانتخابية عن أن (الكيان صغير المساحة، ولابد من منحه مزيداً منها). 





وحيث أن وقائع اليوم تضاعف من المخاطر وتجعل من مواجهتها أولويةً وطنية مطلقة في وقتٍ تعزّ فيه كثيراً عوامل المساندة بفعل التبدلات العميقة على مستوى المنطقة والعالم وعلى مستوى أوزان الدول والقوى مابعد مخطط العدوان الصهيوني الهائل على (غزة) والمنطقة برمتها وعلى كل مايمكن أن يواجه أو يعطّل المشروع يرقب الأردن الذي اختبر ضغوط (ترمب) ومشاريعه بقلق بالغ التفاعلات بل والدلالات المقلقة لعناوين أخرى وازنة في معادلة المواجهة القادمة؛ كالتعاطي الدولي والعربي المخيّب والمقلق مع العدوان على غزة والمنطقة؛ بين داعمٍ للعدوان ومتفرجٍ وعاجز، وما يعنيه ذلك من تضاؤل فرصة ايجاد ظهير يساند في المواجهة المقبلة، كما مخاطر التبدلات "الدراماتيكية" في الجوار ، في سورية ولبنان بالذات ، والتي تتضاعف محولةً بعض الفرص في لحظة إلى تهديدات وعناصر ضغط كبير في ظل اختلال بيّن على مستوى التحالفات والمشاريع العربية - العربية التي باتت تشكل بدورها مزيداً من الضغوط ، سيما وقد بات التضييق على (الأردن) اقتصادياً وسياسياً وعلى مستوى المزاحمة على الوزن والثقل ملموساً مرهِقاً ولايبشّر بخير. 





التهديد ليس جديداً





في مقابلة مع "اندبندت تركيا" صيف العام 2021 تحدث رئيس الوزراء الأردني (بشر الخصاونة) بوضوح عن "المواجهة السياسية الصعبة والمعقدة" مع إدارة الرئيس (ترمب) والتي بلغت ذروتها في العام 2018 ، وتحت عنوان عريضٍ واضح ((القضية الفلسطينية والقدس والوصاية الهاشمية على المقدسات، وكله في إطار "صفقة القرن واتفاقات إبراهام" )) ،ويؤكد الخصاونة (( استُهدف الأردن ،..، سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، حتى وصل الأمر إلى محاولاتٍ لعزل الأردن، بل تحول إلى هدف ، حيث حُوصر اقتصادياً ومالياً، ولمست الحكومة تضرر بعض علاقاتها مع دول عدة في بعض الأحيان … ))





(الخصاونة) الذي أكد ثبات الموقف الأردني الرافض للضغوط والإغراءات ((.. خصوصاً عندما يتعلق الأمر بحقوق الشعب الفلسطيني الأساسية، والتي لا يزايد الأردن فيها، ولا يخضعها لأي نقاش، أو حتى عروض دبلوماسية، أو سياسية…)) أعاد التذكير  ((بالأجندة اليمينية الإسرائيلية المتطرفة وعلى رأسها نتنياهو الذي يُناصب الأردن ومصالحه وشعبه وقيادته العداء علناً، وبنفس المقدار الذي يعادي فيه شعبنا الفلسطيني وحقوقه. منسوب عداء نتنياهو للأردن وصل إلى حد تحريضه على المملكة..)) ، الخصاونة لم يبالغ في وصف التهديدات والمخطط، وإن أصرّ على حصر التهديد في "إدارة ترمب تلك وصهره جاريد كوشنر" وأنها لاتعني استهداف الأردن من قِبل "الدولة العميقة في الولايات المتحدة". وبمعزل عن نقاش هذه "النظرية" فعودة (ترمب) تعيد (الأردن) اليوم إلى ذات المربع؛ الاستهداف المباشر . 





لاحقاً؛ في تشرين الثاني 2023 ، أي بُعيد بدء العدوان على (غزة) والمنطقة ، أكد نائب رئيس الوزراء الأسبق (محمد الحلايقة) في مقابلة مع إذاعة محلية تزايد الضغوط الأميركية على الأردن لاستقبال 300 ألف "لاجئ" من أهلنا في غزة بشكل "مؤقت" ؛ الرسالة حملها إلى الملك وزير الخارجية الأميركي في حكومة (بايدن) الديمقراطية آنذاك (أنتوني بلينكن) خلال زياراته المتكررة للمنطقة ، وكان رد (الأردن) واضحاً بالرفض ؛( لقد مر أكثر من 75 عاماً على تهجير أشقاء فلسطينين لفترة "مؤقتة!"، ولم يسمح لهم بالعودة حتى الآن) ، طُويت تلك الصفحة وقتها، لكن المخطط لم يتوقف، و(الأردن الرسمي) أول المدركين، واليوم يدرك ذلك كل أردني. 





إذاً ثمة إجماع في (الأردن) على وجود تهديد صهيوني كبير عنوانه المباشر التهجير والوطن البديل ، بما يعنيه ذلك من استئنافٍ للتضييق والحصار والقفزٍ على الوزن والدور والتأزيم الاقتصادي الأكبر، وثمة قناعة ،شعبياً على الأقل، بأن التهديد يتعدى وجود (نتنياهو) أو اليمين المتطرف في الحكم ليبلغ مستوى الصراع الوجودي مع الكيان ومشروعه، مايعني أن الاستهداف سيتخذ أشكالاً عميقةً  متعددة ، سياسياً وداخلياً وعلى مستوى النظام السياسي في البلاد ربما، ويستذكر الأردنيون كثيراً من محطات الاشتباك والتهديد، سواء على المستوى العسكري حيث خاضوا كل معارك العرب مع كيان الاحتلال وعلى رأسها معركتهم الخاصة حيث حققوا بمشاركة أشقائهم الفلسطينيين أول انتصار على جيش العدو في معركة الكرامة عام 1968 ، أو على مستوى جذرية موقفهم الرافض لأي تطبيع شعبي ، وعلى مستوى الاشتباك السياسي أيضاً ، ففيما لا يغيب عن بال الأردنيين أبداً أن كل من في كيان الاحتلال منسجم مع المخطط القديم المتجدد ( الأردن هو فلسطين) ؛ المخطط الذي يعبّرون عنه في المؤتمرات والتصريحات والخرائط تماماً كما يعملون لإنجازه في السياسات والخطط والممارسة ؛ يتداول الأردنيون أمثلة فاقعة نستحضر بعضها لا للحصر ، وليس بدءاً بعقيدة (نتنياهو) المعلنة من اعتبار الأردن وطناً بديلاً، والتي تضمنها كتابه (مكان تحت الشمس) صراحةً ، أو بتصريحات القائد الأسبق للمنطقة الوسطى في جيش الاحتلال (يائير نافع) عام 2006 التي "افترض" فيها أن (الملك عبدالله الثاني) قد يكون "آخر الملوك" في الأردن!! ، وليس انتهاءً "بمشروع قرار" مطروح على الكنيست منذ 2009 ، وينتظر إخراجه من الأدراج لعرضه على لجنة "الخارجية والأمن" ، قدّمه آنذاك عضو الكنيست (أرييه إلداد) وعنوانه الواضح (إقامة دولة فلسطينية في الأردن) ، ومابينها من أحداث وملفات مهمة كاغتيال القاضي الشهيد (رائد زعيتر) على المعبر، والشهيدين (الجواودة والحمارنة) في مبنى سفارة الكيان في (عمّان) ، وإعاقة زيارة ولي العهد (الأمير الحسين)، للحرم القدسي الشريف، وخارطة "سموتريتش" في باريس .. ، وغيرها الكثير من الملفات والاشتباكات التي كانت تؤكد دائماً خطأ الرهان على سلام أو مهادنةٍ مع كيان الاحتلال، وتبرهن صوابية الرؤية بوجودية الصراع معه .





مخاطر وجهود





ينطلق الأردنيون في موقفهم من القضية الفلسطينية بمختلف عناوينها من ثابت الإيمان بمركزيتها قضيةً وطنيةً عروبيةً شرعيةً أخلاقية، ومن وحدة الدم والمصير المشترك،ومن رفض تصفيتها على حساب (الأردن) أو أي بلد آخر، انطلاقاً من إدراك عميق لمخاطر الحلول التصفوية على(قضية فلسطين) وعلى (الأردن) ، كل (الأردن)؛ أرضه وهويته وشعبه وعلى نظامه السياسي، ورغم العبث وتشويه المفاهيم وترويج البعض طويلاً لأفكار تتقاطع مع المخططات الكبرى المعدّة تحت عناوين مثل (الأردن الكبير، الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية ، والتدخل الأردني الواجب في بعض الجوار .. الخ) أو ل"إصلاحاتٍ" سياسية تحت وطأة ضغوط (واشنطن) لتعديل بعض القوانين والسياسات ؛ إلا أن شعبنا لم يفقد البوصلة يوماً، فلا توانى عن الدفاع عن (الأردن) في مواجهة كل خطر ألمّ به ، ولا غابت (فلسطين) عن أولوياته ، تجلى ذلك بوضوح في التفاعل الشعبي الكبير أثناء العدوان الدموي الأخير على (غزة)، وبموازاة موقفٍ رسمي ثابت تجلّى في الاستنفار الدبلوماسي والإغاثي منذ بدء العدوان في تشرين الأول 2023، وفي رفض المساس بحقوق الفلسطينين أو تهجيرهم وفي التحذير من المخططات الدموية في (الضفة) ومن محاولة فصل القطاع أو اقتطاع أي جزء منه ..





الاستهداف ليس جديداً ولا الموقف، فالملك عبّر مبكراً عن حجم الضغط والمخاطر وعن الاستعداد للمواجهة عبر لاءاته الثلاث الشهيرة، في آذار 2019 (كلا للتوطين، كلا للوطن البديل، والقدس خط أحمر) ، و تصريح رئيس الوزراء السابق (بشر الخصاونة) ولاحقاً وزير الخارجية (أيمن الصفدي) في تشرين ثاني 2023 تأكيد آخر على دنو الخطر وعلى حتمية مواجهته (إن أي محاولة لتهجير الفلسطينيين إلى الأردن بمثابة إعلان حرب على الأردن سنواجهه بكل حزم) ، ترافق ذلك مع الجهد الإغاثي والعلاجي الذي شمل (الضفة) ايضاً عبر قوافل الأغذية والأدوية ومستشفى (نابلس) الميداني بدءً من تشرين الثاني 2023 في إشارة واضحة لبدء العمل لمواجهة المخطط الساعي لالتهام الضفة وتهجير أهلها بالقتل والتضييق والحصار والاقتحامات وإطلاق يد المستوطنين في القتل والحرق وتخريب وسرقة الأراضي والممتلكات، وهو الخطر الذي كان الأردن يحذّر منه ويترقبّه قبل أن يفاجئ ترمب الجميع بإعلان رغبته ( إقرأ خطته) التي أكدت أن مخطط التهجير إلى الأردن يشمل أبناء (قطاع غزة) وليس (الضفة) فقط ، والذي يستهدف بالمناسبة (مصر) أيضاً، التي أعلنت بدورها ومبكراً موقفها الرافض ، وخاضت مع (الأردن) ،رغم تعذّر المساندين، كثيراً من المحاولات والاستحقاقات، بعضها أثمر وبعضها ظل حبيس حسابات الآخرين وأجنداتهم ، لعل أبرزها (اللجنة الوزارية العربية الإسلامية المشتركة لوقف الحرب على غزة)، التي تمخضت عن (مؤتمر القمة العربية الاسلامية المشتركة الاستثنائي) في الرياض/ تشرين الثاني 2023، والتي لم تنجز شيئاً يذكر رغم جولات فريقها الوزاري وكثرة التصريحات والمواقف ، ذلك كله كان سَبَقه محاولةٌ أردنيةٌ حثيثة لإحداث اختراقٍ في الواقع العربي المشتت الراكد قبل أن تتمظهر على سطحه تكتلات ومحاور آنية ضيقة الأفق عنوانها التساوق أو الاستقواء حيناً وتمرير الوقت والقفز على الأولويات أحياناً ، فكانت فكرة (اللقاء الثلاثي) - الأردني - المصري - العراقي المبكرة ، والتي سعت لاحقاً لفرض "السلطة الفلسطينية"، على علّاتها، عنصراً على موائد الحوارات في مواجهة رغبة البعض في تغييب ممثلٍ عن (القضية) التي باتت محط تنازع الكثيرين، في ظل تراجع الاهتمام، سيما وأن مايريده ويتمناه الشارع العربي من اشتباك مباشرٍ مع الكيان قد بات خارج حسابات النظام الرسمي العربي جلّه تماماً . 





لم يمهل الوقت وتسارع الأحداث وتبدّل الاصطفافات (عمّان) ولا (القاهرة) لاستكمال محاولة تصويب التشتت العربي ، كما غاب عن عقل الدولة في القطرين الشقيقين أن الداخل وتمتين جبهته وتعزيز ثوابته أولى الأولويات، رغم ما رُصد أردنياً من تحرك رسمي بالاتجاه المطلوب ، وإن ظل حبيس المقاربات والتعبيرات المعتادة التي أثبتت عقمها، من أمثلة الزيارات الحكومية الميدانية، ولقاءات الديوان الملكي الأطر الاجتماعية والعشائرية، وتزايد الحديث عن نية عقد حوارات مجتمعية تسبق مناقشة قوانين "الإدارة المحلية" المطروحة للتعديل، في مقابل جهد دبلوماسي ملكي متصاعدٍ منتج أكثر، كانت آخر عناوينه توقيع (اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع الاتحاد الأوروبي) في (بروكسل) أمس الأول، والتي تمنح (الأردن) ثلاثة مليارات يورو للسنوات الثلاث القادمة، ، في دلالةٍ على العمل الحثيث لاستباق مفاعيل التضييق السياسي والاقتصادي القادم، سيما مع ماسيخلّفه قرار (ترمب) وقف المساعدات الخارجية، والتي شملت (الأردن) شكلاً ومضموناً بخلاف ما اعتقد البعض، والتي عبرت عن نفسها مبكراً عبر إلغاء "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية(USAID)" مشروعاً مخصصاً لدعم قطاع الصيانة والتصنيع ومحطات شحن العربات الكهربائية في محافظة الزرقاء. 





منطق الهبات والمساعدات هذا ،بالمناسبة ،لم يَرُقْ يوماً للأردنيين، ولا يريدونه بديلاً عن الإنتاج والاعتماد على الذات.





اليوم يقف (الأردن) أمام مخاطر استحقاقٍ لطالما أرّقه، سيما وأن التهجير فصلٌ في مخطط كبير يهدف إلى تكريس الكيان حالةً مركزيةً في محيط مفتّت مهدّم، وإلى تصفية القضية الفلسطينية من بوابة التخلص من "العبء" الديمغرافي الذي يتهدد المشروع المناط بالكيان ، فيما لم تخفَ عن الأردنيين يوماً الرغبة والسعي لتحويل جغرافيا البلاد إلى ملاذٍ للتخلص من (فائض) الحل المنشود ، ماينذر بخطر تعاظم المطامع حد استحضار مخططات التغيير الجغرافي الذي قد يشمل أكثر من قطرٍ عربي في المحيط، كما خطر العبث الداخلي الذي اختبره الأردن كثيراً ، عبر الإرهاب حيناً ، وعبر محاولات المساس بشرعية النظام السياسي ، فضلاً عن شعبيته، أحياناً أخرى ، [لعل أقساها كان قضية (الأمير حمزة/ نيسان 2021) والتي ، وإن وُئدت في أرضها ، ماكانت لتُحدِثَ ما أحدثَته من هزةٍ لولا دور وسائل إعلامٍ عربيةٍ بعينها وجهد ممنهج وتحريض عبر وسائط التواصل واستهداف اقتصادي]،ولايخفى أن المخاطر على الداخل تتجاوز محاولات اليوم للتهيئة للقادم، فأي نجاح للمخطط سيمنحه فرصاً أكبر للتدخل والعبث والتخريب الساعي بوضوح لإعادة صياغة الواقع السياسي والاجتماعي في البلاد حد استهداف النظام السياسي بل الكيان الأردني برمّته، سيما وأن معركة الهويات والمفاهيم التي تشهدها المنطقة خلقت تبدلاً مزلزلاً على مستوى الهويات هنا وهناك ؛ في (سورية) مثلاً وفي سياق مشروعٍ اتضح أنه لن يتوقف "طوعاً" حتى يغيّر هوية وعناوين المنطقة برمّتها وصولاً إلى جغرافيتها ، مايتهدد الجميع دون استثناء من مخاطر تقسيمٍ جديد وإعادة ترتيب ، ربما سيشمل لاحقاً كيان الاحتلال نفسه بتغيير كبير، سياسياً واجتماعياً وبالطبع جغرافياً ، حين يصبح مُلحّاً إعادة تسويقه كما تحضيره للدور القادم.





في الخلاصة يجد الأردنيون ، كما أشقاؤهم المصريين، أنفسهم أمام السؤال الكبير اليوم ، ما العمل؟





الخيارات .. لامفر من المواجهة





أمام (الأردن) اليوم خيار من اثنين ؛ المواجهة أو الرضوخ والتكيّف المكلفين ، فيما خيار المناورة أو التأقلم محكومان باستنزاف الجهد والوقت دون طائل في ضوء واقع اقليمي ودولي محفوف بالتهديدات والمفاجآت ، يوحي بأن كل المعنيين مسلّمون بحتمية التغيير القادم حد التساوق معه، لدرجةٍ بات فيها الصدام مع من كان حليفاً بالأمس القريب وارداً ومقلقاً، فضلاً عمّن كان خصماً دائماً، وإن فرضت بعض الوقائع مايوحي بخلاف ذلك. 





لاخلاف على أن الرضوخ مدمِّر ، ويسمح بتمرير المخطط الكبير بما يحمله من عوامل تدمير للبلاد وتصفية للقضية وتعزيز لأطماع الطامعين في جعرافيا الوطن بعد دوره ووزنه، وأنه سيضعف النظام السياسي ويضاعف الضغوط لدفعه للتغييراتِ العميقة الخطيرة ، وسيكشف المجتمع أمام مخاطر الفتنة والعبث المتربص بأمنه وأمانه ودماء أبنائه. 





بالمقابل؛ ليس صحيحاً أبداً أن (الأردن) ، ورغم كل ماذكر من استعصاءات ومصاعب، عاجزٌ عن المواجهة، ولايظنن أحد أن يتوانى الأردنيون لحظةً عن بذل التضحيات في سبيل وطنهم وقيمهم وثوابتهم وقضية فلسطين، لكن هذا الفهم المشرّف يحتاج ترجمة إلى مشروع ومهام واضحة، يحتاج إلى إعادة قراءة الأولويات والسياسات لتحصين الذات وتحويل الخطر إلى فرصة ، ولعلها فرصةٌ حقاً، سيما وقد أدركنا أن الرهان الوحيد الذي يصح الاستناد اليه هو على الذات ، على الشعب وثوابته ووعيه ، على المؤسسات والأطر السياسية والاجتماعية ، على الثقة بين الناس ومسؤوليهم وحكوماتهم ، وأخيراً على الباب المفتوح بينهم وبين القصر، الذي لطالما أوصدته حكوماتٌ وفسادُ فاسدين ومحسوبيةٌ وغياب عدالة ، مايهدد بما نحذر منه لسنوات من إضعافٍ للعلاقة بين الشعب والعرش ، إلى درجةٍ تشعرك وكأن ثمة إيدٍ في الخفاء تسعى عند عمد لهز "الشرعية والشعبية" في أذهان الأردنيين. 





والمواجهة تبدأ من المكاشفة والحوار الوطني الواسع والشفّاف، الذي يسبقه التخلّص من كل المعيقات والأحمال الزائدة على مستوى بؤر الفساد والاستحواذ والاستخفاف وتغييب المبادرات ،والتي أعاقت ولاتزال مشروع الإصلاح الحقيقي الذي نظّر له الجميع وينتظر نضوجَه الاردنيون على مدار عقد ونصف على الأقل.





المواجهة تبدأ من قبول الرأي المخالف وسماع النصح ، ومن إعادة الاعتبار للانتماء الذي هو عنوان علاقة الأردنيين بوطنهم وبالتالي بمليكهم ، المواجهة تبدأ من إلغاء القيود على المعارضة الوطنية ؛ (حاجة البلاد الملحّة اليوم)، وعلى الأحزاب والنقابات، ومن مصارحة الناس بمخاطر ماينتظرهم وبعوامل القوة والضعف، من التغيير الحقيقي المبني على إدراك الجميع ، دولةً وشعباً ، حكومةً وأحزاباً ومثقفين بأن التقارب خطوةً مكسبٌ للجميع ، وأن تقديم التنازلات في إطار البيت الواحد خير للبيت وأهله ، تماماً كما أن أي خلافٍ أو مكاسرة أو تصارع هو الدمار على البيت وأهله، سيما والمخطط يتربص لانتزاع تنازلات خطيرة أكبر ؛ بحجم الأرض والسيادة والأمن الاجتماعي وبنية الدولة ونظامها ، ويتحيّن الفرص لجعل ماعهدناه طويلاً من استقرار للبلاد وسط محيط ملتهب ذكرى نتحسر عليها ، لاقدّر الله. 





لايلزمنا سلاح نووي لنواجه ، ولاتنقصنا الشجاعة عند الواقعة لننتصر ، ينقصنا المشروع ووعي المهام واليقين بالجدوى، ينقصنا استثمار استعداد الناس للمواجهة والتضحية لتكريس مشروع النهضة المنشود، يلزمنا أن يرى العالم وحدتنا وتماسكنا فنردع الأعداء ، فلا ضيق الحال سيحول بين الأردني والدفاع عن أرضه وكرامته، ولا الترويج للوعود البراّقة وبِشارات "البحبوحة" تغريه ، ولاتعنيه (خطط مارشال) الجديدة حيث يتنطّح من يملك المال لفرض مقاربته ومشروعه على الجميع انطلاقاً من القدرة على إعمار ماتهدّم والاستثمار فيما تهشّم في المحيط، فالأردني لا يباع ولا يُشترى؛ الأردني ببساطة لايبيع (الأردن) وإن أوجعه أن شعور الاغتراب يوشك أن يتملّكه.





ضرورة أخرى تعزّز خيار المواجهة؛ فعلى مستوى استقرار الحكم وفيما يمكننا الجزم بأن نظام (الملك عبدالله الثاني) لاتنقصه الشرعية ولا الشعبية الكفيلة بتجنيب البلاد هزّات عنيفة شهدتها أقطار عربية وازنة ؛ لايغيب عن البال أن كل ماسبق - إضافةً إلى الوقائع الجديدة وشكل المنطقة وتأثيرات الأحداث الكبيرة المتسارعة والمفاجئة وتعاظم الضيق الشعبي من أزمة الواقع المعيشي واستمرار العبث واستهداف المفاهيم - تجعل من الملحّ "تعزيز" شرعية الحكم وشعبيته في مواجهة تهديدٍ لم يعد يخفى على أحد - سيما وأن الأردنيين لم يختلفوا يوماً على (العرش)، ولم ولن يقبلوا إملاءً أو تدخلاً - . كل ذلك يعزّز حتمية اختيار المواجهة الواضحة الصريحة مع المخطط ، ومع كل من ومايصب في مصلحته ، في الداخل والخارج، والملك بشخصه عبّر عن ذلك بشجاعةٍ وبوضوح، موجزاً مقاربته في وعده الشهير في خطاب التاسع من حزيران من العام الفائت بمناسبة اليوبيل الفضي لتسلمه سلطاته الدستورية ( عهدي لكم أن يبقى الأردن حراً عزيزاً كريماً آمنا مطمئناً) .





مع كتابة هذه السطور تتفاعل على وسائل الإعلام تصريحات جديدة لترمب؛ ((الأردن ومصر سيقبلان تهجير أهل غزة ! )) ، مايناقض ماجاء على لسان مبعوثه "لشؤون المحتجزين" (آدم بوهلر)بالأمس، التي دعا فيها كلاً من الأردن ومصر ((لتقديم بديل مناسب عن رفضهما فكرة استقبال أبناء غزة؛ ترمب منفتح على خيارات أخرى)).





اذاً لامناص من المواجهة، ومن الثقة بجدواها، ربطاً بما اختبره الأردن مراراً حين كان يتخذ موقفاً متعارضاً مع مخططات الأميركي أو بعض الحلفاء ،كمثال "عاصفة الصحراء" مطلع التسعينيات ،ورفض التورط بتدخل مباشر في الجنوب السوري منذ ربيع 2011، او إرسال جنود (الجيش العربي) إلى (اليمن) الشقيق ضمن "عاصفة الحزم"، وغيرها الكثير من الملفات التي شهدت ضغوطاً كبيرة ومحاولات التفاف ، وإصراراً على "المعاقبة" ؛ نجح الأردن في تجاوزها جميعاً. 





نختلف مع سياسات الحكومات المتعاقبة وضعفها، ولطالما رفضنا الاستخدام المتكرر ل"فزاعة" المخاطر في تطويق المطالب وتكميم الأفواه ، لكننا اليوم مطالبون جميعا بتنحية كل خلاف واختلاف والاتفاق على الوطن بكل عناوينه، وعلى وحدة الصف والبناء والمهام، وعلى ضرورة إظهار موقفنا للعالم، ساطعاً مدوياً، رافضين كل صوت يدعو إلى فتنةٍ أو عبث، مواجهين كل معتدٍ وكل مصطادٍ في الماء العكر، وكل طامعٍ باستغلال الظرف ، مطلقين (ورشة إصلاح وطني شامل) ، تُنتج رؤيةً استراتيجية تعتمد المعرفة وتمتين الوعي لتحقق مانستحق من قوةٍ ومنعةٍ وقدرةٍ على امتلاك عوامل المواجهة والصمود والتقدّم والاكتفاء.





اليوم؛ نحن جميعاً مطالبون بالنزول "على الأرض" ، ورصّ الصفوف، وبوقفةِ تَفكُّرٍ مع الذات، لبدء العمل ؛ فالأردن كله في خطر، وبحاجتنا جميعاً.. حتى نحوّل الخطر الوجودي المحدق إلى فرصة قد تحدث فرقاً تاريخياً.