+
أأ
-

د. محمد العرب : السم الأزرق والشعوب المحطمة

{title}
بلكي الإخباري

في خضم العواصف التي تعصف بتاريخ البشرية، تتناثر بعض الشعوب كما الأوراق في مهبّ الريح، محطّمين وجدانياً ونفسياً بعد أن جرفتهم انعطافات خطيرة في مسيرتهم. كأنهم كانوا في يوم من الأيام يحملون رايات الأمل، ثم سرعان ما تعثّرت خطواتهم على أعتاب السم الأزرقذلك السم الذي لا يظهر في البداية، لكنه يتسلّل إلى الأعماق ليقتل كل شيء دون أن يدركه أحد. السم هنا ليس مادة كيميائية أو سائلاً قاتلاً بل هو ما تشكّلت منه الآلام والمخاوف والأوهام التي غذّت العقول وسلبت القوة، إلى درجة أن الشعوب لا تدرك أنها في طريقها نحو الانتحار النفسي والوجداني.في عيونهم يختلط الحلم بالواقع، وتتصادم الآمال مع الندوب التي خلفتها الحروب والمجاعات والصراعات. السعي وراء السلطة، والشهوة للتقدّم، والخيبات المتلاحقة هي الأفاعي التي تفرز السم الأزرق؛ ذلك السم الذي يأتي مع كل وعدٍ مغرٍ، مع كل وعدٍ بحياة أفضل، ثم يتحوّل سريعاً إلى سمٍّ يقتل الأمل ويغذّي اليأس.كل انتصار في البداية كان يبدو وكأنه بداية لحقبة جديدة، ولكن ما يلبث أن يتحوّل إلى شعور مرير من الخيبة والخوف. فالشعوب المحطمة وجدانياً ونفسياً هي ضحايا لأوهامٍ زُرعت في عقولهم في لحظة من الزمن، لكنهم اكتشفوا بعدها أن الحقيقة كانت أبعد مما كانوا يتصورون، وكانت تلك الأوهام قد فتحت أمامهم أبواب السم الأزرق الذي أودى بهم إلى الضياع.تتساءل هذه الشعوب عن المدى الذي يجب أن يقطعوه للشفاء من الجراح النفسية التي أرهقتهم. ولكن كيف للروح أن تشفى عندما يظل السم الأزرق يلتفّ حول القلب ويمنعه من النبض؟ إنهم يعانون من داء القلق المزمن، من تآكل الثقة بالنفس، ومن تدمير الهويات التي كانت تشكّل قوة تلك الشعوب في يوم من الأيام.السم الأزرق هنا ليس سماً خارجياً فقط، بل هو أثر الخيبات المتراكمة عبر الأجيال، أثر الوعود الزائفة التي تحوّلت إلى كوابيس تطارد كل من كان يعتقد أن النصر سيكون حليفًا دائمًا.لا شيء أكثر تدميراً من أن تعيش الشعوب في فوضى من المشاعر المتناقضة، بينما يرفع البعض رؤوسهم في معركة وهمية ضد أنفسهم، يظل الآخرون يبحثون عن القشة التي يمكن أن تعيد لهم توازنهم.ولكن هل من الممكن الشفاء من السم الأزرق عندما يكون كل من حولك قد أُصيب بالعمى؟ وهل من الممكن أن يعيد الزمن ذاته لمحو الآلام التي تركت في الروح جروحاً لا تندمل؟هذه الأسئلة ستظل تطاردهم، مثل طيفٍ يتبعهم أينما ذهبوا، حتى لو حاولوا الهروب منه في كل مرة.ختاماً فلسفة السم الأزرق هي الفلسفة التي ترصد الخراب العميق في الوجدان البشري. هي فلسفة الحياة التي تُعلّمنا أن البقاء ليس نصراً خارجياً، بل هو تصالح داخلي مع الذات.ولكن الشعوب التي أضاعت طريقها في الصراعات والأوهام لا يمكنها أن تتصالح مع هذا السم الذي أودى بها. إنها تحتاج إلى رحلة طويلة لإزالة السم الأزرق من عروقها، ولكنها لا تدرك أن بداية الشفاء تبدأ من التوقف عن شرب السم في كل مرة يُعرض عليها.ببساطة : السم الأزرق هو كل فكرة أو وهم يتسلل بهدوء إلى العقول، يَعِد بالخلاص لكنه يغذي الخيبة واليأس. إنه تآكل صامت للأمل والهوية، لا يبدأ بالصدمة بل بالقبول التدريجي. الشفاء يبدأ حين ندرك وجوده ونتوقف عن استهلاكه، مهما بدا مغرياً..!