+
أأ
-

د.عبدالله الطوالبة يكتب ...توقيف الصحفيين خطأ بنكهة الفضيحة!

{title}
بلكي الإخباري






الصحافة مهنة مختلفة، تنماز عن باقي المهن. وكي لا يلتبس الأمر على أحد، ظناً منه أنني أتحدث عن الصحافة الورقية بَسْ*، فإن مقصود القول في سطورنا هذه، الصحافة بمعنى فن استخدام الكلمة في الإتصال الجماهيري بوسائله المتعارف عليها. الصحافة بهذا المفهوم، تستدعي الإبداع كأحد أهم شروط ممارستها، كي تكون بالفعل وليس بالتنظير ضمير المجتمع، الذي يرى ويسمع ويراقب، بل ويحاسب عند الضرورة. والإبداع لا يتنفس، ولا يزدهر، إلا في أجواء الحرية.  هذا يعني أول ما يعني، أن الصحافة والحرية شقيقتان أُرضعتا بلبان، أو بحسب القول الشائع، وجهان لعملة واحدة.
حرية الصحافة، أساس الحريات كلها. فالصحافة الحرة، دليل توفر الدولة على قدر معتبر من الرؤى الفلسفية العصرية والفهم المتقدم للسلطة وللمجتمع ولدور وسائل الإعلام. وهي في الوقت عينه، دليل نُضجٍ سياسي وفكري، يعي أن لا تقدم ولا نهوض إلا بوجود إعلام حر يراقب ويحقق ويكشف وينتقد. في الفضاء المفتوح، لم يعد هناك مجال للصحافة أحادية الاتجاه. أما الصحافة التي تقبل على نفسها العيش في جلابيب الحكومات، وتتفنَّن في تملق المسؤولين، فإنها عالة على المجتمع ولا يمكن أن تحظى باحترامه.
بهذه المعايير، فإن توقيف الصحفيين يوجه ضربة في الصميم لحرية الصحافة.  التعبير بحد ذاته"توقيف الصحفيين"،  يبدو شاذاً في عصر الإعلام الرقمي والمعلومات العابرة للحدود مُتحديَّة العوائق وغير آبهة بالقيود.
هذا الإجراء التعسفي بحق الصحفيين، يبدو بمعايير الحاضر كما لو أنه فيض من عقلية متوارثة، تؤمن بالإقصاء والوصاية وترى في ممارستهما حقاً لها.  كما تتوهم ان بمستطاعها احتكار الكلمة والصوت والصورة، في عصر سريع الإيقاع والحركة والتغير. توقيف الصحفيين يعني، أن ثقافة الرقابة  والرقيب ما تزال فاعلة في ربوعنا، مُقدمَّةً الدليل على الإخفاق في بناء إعلام إيجابي وفاعل وليس اعلاماً سلبياً ومفعولاً به. فالإعلام إما أن يكون حراً، يؤدي رسالته في الإخبار والتوعية والتحقيق والكشف عن المساوئ والسلبيات، أو وسيلة لتزييف الوعي والتملق والتلميع. إعلام الشق الأول في هذه المعادلة، يجب أن يتوفر له شرط ثانٍ لا يقل أهمية عن الحرية، يتمثَّل بالمعلومة، التي هي حق للصحافة وحق للمواطن قبل الصحافة. وعليه، فإن توقيف الصحفيين في قضايا النشر والرأي، يعتبر اعتداءً على هذا الحق. وفي هذا الإعتداء قمع للصحافة، يُباطن رسالة للصحفيين فحواها أن طريق النقد غير آمن والتغريد خارج السرب مُكلف والرأي المختلف مرفوض، وفي أفضل حالاته غير مرحب به. هنا، يفرض نفسه التساؤل: كيف يمارس الصحفي واجبات مهنته وهو يهجس بسيف قد تشهره الحكومات في وجهه عندما لا يروق لها ما ينشر أو ما يقول؟!
لا أحد يطالب بأن يكون الصحفيون فوق القانون. وهم قبل غيرهم يعلمون أن لهم حقوقاً وعليهم التزامات. وفي مقدم هذه الأخيرة، الإلتزام بأخلاقيات المهنة. وبموازاة ذلك، فإن حقوق الصحفيين عامة، بمعنى أنهم يمارسونها نيابة عن المجتمع للنهوض برسالة الصحافة في كشف الحقائق للرأي العام. وعلى ذلك، لا يجوز أن يكون رأي الصحفي أو ما يَنشُر من معلومات سبباً للمساس به، ما دام يندرج في سياق حق الصحافة في تأدية رسالتها بحرية واستقلالية. مقصود القول، إن حرية الصحافة أحد أهم أشكال التعبير والرأي بالنسبة للصحفيين، مثلما هي وسيلة إصلاح وتقدم بمعايير مصالح المجتمع.
لذا، تتبارى الحكومات في الدول المتقدمة لتهيئة ما من شأنه ضمان قيام الصحافة بواجباتها على الوجه الأكمل، وبخاصة في تسليط الضوء على السلبيات. أما الإيجابيات والإنجازات، فيتم البناء عليها لتعظيمها واتخاذها أنموذجات يُقتدى بها.
لكن الصورة تبدو مقلوبة على هذا الصعيد،  في بلداننا العربية. فالحكومات لا تستسيغ وجود صحفي غير مُدجَّن، ولا تطرب أذن المسؤول للنقد. أما تعددية الرأي والرأي المختلف، فطريقهما وعر ومزروع بالأشواك. وما يزال دور الصحافة والإعلام في ذهن المسؤول العربي مرتبطاً بالتسبيح بحمد سياساته والترويج لها وتمريرها، وتبهير ذلك بالتملق والتلميع والتزييف وخداع المواطن المتلقي. ولا شك أن إعلاماً هذا شأنه، لا علاقة له بقضايا الناس وهمومهم وطموحاتهم. وبذلك، فإنه يفتقد لأهم خصائص الإعلام.
من هنا، يمكن تفهُّم نظرة العالم إلى واقع الحريات بعامة وحرية الصحافة بخاصة، في البلدان العربية، بناء على تقارير المنظمات  الحقوقية الدولية وذات العلاقة بالحريات.
في السياق، نشير إلى أن بمقدور الأردن أن يكون استثناءً، مقارنة بالبلدان العربية، في مجال حرية الصحافة.  لكن يبدو أن الحكومات، لا تفكر على هذا النحو ولا يهمها ذلك. ودليلنا على ما نقول، وضع ما يُعرف ب"قانون الجرائم الإلكترونية". المتأمل في مضامين القانون، وبخاصة المادة (11)، لن يتردد باعتباره التفافاً على تعديل قانون المطبوعات والنشر عام 2012، بالنص على عدم توقيف الصحفيين نتيجة إبداء الرأي بالقول والكتابة وغيرها من وسائل التعبير.
الحكومات الواثقة من سياساتها والمتأكدة من صدقيتها لدى الرأي العام، لا تخشى النقد ولا تخاف الرأي المختلف. وترى في الصحافة الحرة مصدر قوة للدولة، تقديراً منها لرسالة الكلمة الحرة، وإدراكاً لأهمية دورها في تسليط الأضواء الكاشفة على السلبيات والأخطاء ومكامن الضعف في السياسات وتطبيقاتها. أما المعلومة الخاطئة، فتتقبلها بصدر رحب وتصححها بالدليل والبرهان، حيث تتيح تكنولوجيا الاتصال وتقدمها المتسارع، إمكانية ذلك بيسرٍ وفاعلية.
مقصود القول في الختام تأسيساً على ما تقدم، توقيف الصحفيين دليل ضعف مثلما هو اعتداء على حرية الصحافة.
وفي عصر الحريات والفضاء المفتوح، فإنه خطأ بنكهة الفضيحة!
*يعتقد كثيرون أن بَسْ مفردة عامية، وهي في الحقيقة كلمة عربية فصيحة.