أوكرانيا وسوريا: جدلية الحرب والمصالح الدولية

د عاطف زريقات
لا حاجة للتأكيد على أهمية "الحدث الأوكراني"، فهو ليس مجرد صراع بعيد عن منطقتنا، بل تتردد أصداؤه بقوة في سوريا، والعراق، ولبنان، وإيران، وحتى في الصراع العربي-الإسرائيلي. منذ اللحظات الأولى للصراع، سعت الأطراف المتنازعة إلى ربطه بمسارات أخرى، إذ تحدثت البروباغندا الروسية عن انتقال مقاتلين من سوريا إلى أوكرانيا لنصرة كييف، واتُهمت أوكرانيا بتزويد قوات المعارضة السورية بطائرات مسيّرة وتعليمها كيفية تصنيعها.
لكن حين نناقش موقفًا من هذا النزاع، فإنه يجب أن يكون مستندًا إلى مبادئ "الحق والعدل واحترام إرادة الشعوب"، وقاعدته الأساسية هي احترام استقلال الدول وسيادتها، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة أو القوى المتصارعة داخل كل بلد. هذا موقف استراتيجي يعبر عن التزام ثابت، وليس مجرد رد فعل عاطفي أو سياسي.
الحرب الروسية على أوكرانيا: عدوان أم دفاع استراتيجي؟
من هذا المنطلق، فإن ما حدث ويحدث في أوكرانيا هو، قانونيًا، اعتداء مسلح من روسيا على دولة مستقلة ذات سيادة. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن إغفال الخلفيات الجيوسياسية التي دفعت موسكو إلى اتخاذ هذا القرار. منذ الانقلاب الذي أطاح بالحكومة الأوكرانية الموالية لروسيا عام 2014، أصبحت القوى الحاكمة في كييف أكثر انحيازًا للغرب، وسعت للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وهو ما اعتبرته روسيا تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
كانت أوكرانيا تستطيع أن تلعب دور المنطقة العازلة بين الغرب وروسيا، وتحافظ على علاقات متوازنة بين الطرفين، خاصة أن هناك روابط ثقافية وتاريخية ودينية واقتصادية تربطها بروسيا. كان من مصلحتها أن تكون وسيطًا بين أوروبا وروسيا بدلًا من أن تتحول إلى ساحة مواجهة. لكن القيادة الأوكرانية اختارت مسارًا تصعيديًا، وهو ما دفع موسكو إلى اتخاذ إجراءات صارمة، خاصة أن انضمام أوكرانيا إلى الناتو كان بمثابة "الخط الأحمر" الذي لا يمكن للكرملين القبول بتجاوزه، تمامًا كما لم يقبل الغرب بوجود صواريخ سوفيتية في كوبا عام 1962.
بوتين وأوكرانيا: بين التاريخ والجغرافيا
أعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التأكيد مرارًا على أن أوكرانيا "صناعة روسية حديثة"، وأنها لم تكن يومًا كيانًا منفصلًا بشكل تام عن روسيا. منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وافقت روسيا على استقلال أوكرانيا ضمن الحدود التي كانت عليها في ذلك الوقت، لكنها رأت في تحركات كييف الأخيرة انقلابًا على الترتيبات الجيوسياسية التي سادت بعد الحرب الباردة.
الحجة الروسية الأساسية تقوم على أن أي تغيير جذري في أوكرانيا يهدد الأمن القومي الروسي. ومع ذلك، فإن هذا لا يبرر قانونيًا استخدام القوة العسكرية لتغيير الوقائع على الأرض، كما أن الاتفاقيات الدولية، مثل "مذكرة بودابست" لعام 1994، منحت أوكرانيا ضمانات أمنية مقابل تخليها عن ترسانتها النووية، بما في ذلك تعهد روسيا باحترام سيادتها وعدم تهديدها عسكريًا.
الدرس المستفاد: لا حق بلا قوة
لكن الواقع الجيوسياسي يثبت مرارًا أن القوانين والاتفاقيات وحدها لا تكفي لحماية الدول، بل لا بد من قوة تحميها. هذا درس يجب أن تفهمه القيادة الأوكرانية التي وثقت بالضمانات الغربية، كما يجب أن يفهمه العرب، الذين كثيرًا ما راهنوا على القانون الدولي دون امتلاك أدوات القوة اللازمة لفرض احترام حقوقهم.
في النهاية، تظل الحرب في أوكرانيا نموذجًا لصراع المصالح الدولية، حيث تختلط الاعتبارات القانونية بالأبعاد الاستراتيجية، وحيث تصبح المبادئ رهينة ميزان القوى. وكما أظهرت السنوات الأخيرة، فإن العالم محكوم بمعادلة بسيطة: "لا حق بلا قوة تحميه".



















