تجاوز الأيديولوجيا: الإسلام السياسي وبناء أسس التعايش والسلام في المجتمع العالمي

دمج فكر الإسلام السياسي في المجتمع العالمي: نحو نموذج حضاري للتعايش والسلام
دراسة تحليلية لفهم التفاعل بين المرجعية الإسلامية والنظام العالمي الحديث
بحث اعداد المهندس سعيد المصري.
ملخص:
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل إمكانية دمج فكر الإسلام السياسي في النظام العالمي المعاصر، من خلال تقديم مراجعة منهجية لمفهوم الإسلام السياسي، واستعراض التحديات الفكرية والسياسية المرتبطة به، واستقراء النماذج المعاصرة التي حاولت التوفيق بين المرجعية الإسلامية ومبادئ الحداثة. وتطرح الدراسة رؤية عملية لانتقال الفكر الإسلامي السياسي من مرحلة الصدام إلى التفاعل الخلّاق مع القيم العالمية، بما يحقق التعايش السلمي، ويحفظ الهوية الثقافية والدينية للمجتمعات المسلمة ضمن سياق عالمي تعددي.
المقدمة:
في ظل التحولات الجيوسياسية والاجتماعية المتسارعة التي يشهدها العالم المعاصر، تبرز إشكالية العلاقة بين الحركات ذات المرجعية الدينية، وعلى رأسها تيارات الإسلام السياسي، والمنظومة الدولية القائمة على مبادئ الديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان، والعقلانية السياسية. يزداد هذا التحدي تعقيدًا في ظل تصاعد الخطابات المناهضة للتعددية الثقافية والدينية في عدد من المجتمعات الغربية، مما يفرض على الفكر الإسلامي السياسي إعادة النظر في آليات حضوره السياسي والاجتماعي عالميًا.
تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة تحليلية عقلانية لإمكانية اندماج فكر الإسلام السياسي في المجتمع العالمي، مع التركيز على مسارات التحول من الأيديولوجيا الدينية المغلقة إلى نموذج منفتح قادر على التفاعل مع المتغيرات الدولية دون التفريط بالثوابت الأخلاقية والدينية.
أولاً: الإسلام السياسي – الإطار المفاهيمي والتحولات الفكرية
يُعرّف الإسلام السياسي بأنه التوجه الفكري الذي يعتبر الإسلام دينًا شاملًا للحياة، ويطالب بإعادة إدماجه في المجال العام، بحيث تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأعلى للتشريع. وقد ظهرت هذه الحركات كرد فعل على فشل مشاريع التحديث في العالم العربي والإسلامي، والاستعمار، والهيمنة الثقافية الغربية.
يرى أوليفييه روا في كتابه فشل الإسلام السياسي (1994)، أن هذه الحركات لم تنجح في تقديم مشروع سياسي حديث، وظلت حبيسة تصورات ماضوية. بينما يعتبر جراهام فولر في مستقبل الإسلام السياسي (2003) أن هذه الحركات تمتلك إمكانات التطور والانفتاح، شرط تجاوز النزعة الصدامية.
ثانيًا: التحديات الفكرية والسياسية في السياق العالمي
1. إشكالية التعددية:
الفكر السياسي الغربي يؤسس لشرعية تقوم على التعددية والمواطنة المتساوية، بينما بعض تيارات الإسلام السياسي لم تطوّر بعد تصورات واضحة عن التعدد الديني والسياسي. يشير عبد الوهاب المسيري إلى أن الاعتراف بالآخر ضرورة فكرية لبناء مشروع حضاري إسلامي منفتح.
2. العلمنة والعقلانية:
الأنظمة السياسية الحديثة ترتكز على علمنة المجال العام، وهو ما يتعارض مع النزعة الشمولية لبعض الحركات الإسلامية. إلا أن طه عبد الرحمن يؤكد في الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري (2005)، أن بالإمكان بناء نموذج عقلاني إسلامي يحترم قيم العصر دون الذوبان فيها.
3. حقوق الإنسان:
تعكس المواثيق الدولية لحقوق الإنسان منظومة حقوقية تتمحور حول الفرد، بينما تعطي الشريعة الإسلامية الأولوية لمفهوم الجماعة. يرى راشد الغنوشي في الحريات العامة في الدولة الإسلامية (1993)، أن الإسلام يتضمن مقومات لحقوق الإنسان تتوافق مع مقاصد الشريعة، وتستجيب للتحولات الحديثة.
ثالثًا: نماذج معاصرة لمحاولات الدمج
1. تونس – حركة النهضة:
شكلت حركة النهضة نموذجًا للتحول من الإسلام السياسي الأيديولوجي إلى قبول الدولة المدنية. وقد أشار تقرير معهد كارنيغي للسلام الدولي (2018)، إلى أن النهضة “تمثل مثالًا على الانتقال من حركة عقائدية إلى حزب سياسي واقعي منفتح على الشراكة السياسية”.
2. تركيا – حزب العدالة والتنمية:
قدّم الحزب نموذجًا ناجحًا نسبيًا لدمج الهوية الإسلامية في إطار مؤسسات ديمقراطية وعلمانية حتى عام 2011. وقد أظهر النموذج التركي إمكانية التفاعل بين الإسلام المحافظ ومبادئ الاقتصاد الحر والدولة المدنية.
3. المسلمون في الغرب:
ساهم المسلمون في الغرب في الحياة العامة من خلال نموذج المواطنة النشطة الذي طرحه طارق رمضان، دون المطالبة بنظام ديني، مما يعكس قدرة الإسلام على التعايش ضمن نظم ليبرالية.
رابعًا: رؤية منهجية لإمكانية الدمج الحضاري
1. المقاصد الشرعية كأساس للتشريع المعاصر:
بالاستناد إلى فكر الشاطبي وابن عاشور، يمكن اعتبار مقاصد الشريعة (حفظ الدين، النفس، العقل، المال، النسل) قاعدة لفهم مرن للشريعة، يتيح التفاعل مع السياقات المختلفة.
2. فصل النسق الأخلاقي عن الهيمنة السياسية:
يتحقق الدمج حينما يتحول الإسلام السياسي إلى مشروع أخلاقي مدني، يتخلى عن مشروع الهيمنة لصالح المشاركة الفعالة. يرى جون إسبوزيتو أن “الإسلام السياسي مرشح ليكون قوة إصلاحية إذا انفتح على التعددية”.
3. التدرج والبراغماتية:
تحتاج الحركات الإسلامية إلى تبني سياسات مرحلية قائمة على التدرج، والانتقال من الخطاب العقائدي إلى البرامج التنموية والسياسية الواقعية.
خامسًا: مقترحات عملية لتفعيل الدمج
• تطوير الخطاب الإسلامي ليكون إنسانيًا وحقوقيًا، بعيدًا عن الشعارات الدينية الجامدة.
• تأسيس مراكز بحث مستقلة لإنتاج معرفة سياسية إسلامية حديثة.
• بناء شراكات مع المنظمات الدولية في مجالات التنمية المستدامة والبيئة وحقوق الإنسان.
• تشجيع الاجتهاد الجماعي لإعادة النظر في مفاهيم مثل الخلافة، تطبيق الشريعة، والدولة الإسلامية.
• تعزيز الدبلوماسية الثقافية والإعلامية لتقديم صورة حضارية عن الإسلام.
الخاتمة :
يمثل دمج فكر الإسلام السياسي في النظام العالمي المعاصر فرصة لتطوير مشروع إسلامي عقلاني، يسهم في بناء عالم أكثر عدالة وتوازنًا. يتطلب هذا التحول مراجعة جذرية في التصورات التقليدية حول الدين والدولة، مع الحفاظ على القيم الأخلاقية والروحية للإسلام، والانفتاح على مبادئ التعددية والحقوق والحريات.
إن بناء نموذج حضاري قائم على التفاعل لا الصدام، وعلى الشراكة لا الإقصاء، يمثل المسار الأمثل لتمكين المجتمعات الإسلامية من العيش بسلام في عالم متعدد، يقدر التنوع، ويحترم الخصوصيات الثقافية.
المراجع:
1. Olivier Roy, The Failure of Political Islam, Harvard University Press, 1994.
2. Graham E. Fuller, The Future of Political Islam, Palgrave Macmillan, 2003.
3. راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، 1993.
4. طه عبد الرحمن، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، المركز الثقافي العربي، 2005.
5. عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، دار الشروق، 2001.
6. John L. Esposito, Islam and Politics, Syracuse University Press, 1998.
7. Carnegie Endowment for International Peace, Tunisia’s Islamists and the Challenge of Democratic Transition, 2018.



















