د عاطف زريقات. يكتب: نهاية الأيديولوجيا : من الشعارات إلى البرامج قراءة في تحوّلات الفعل السياسي والاقتصادي في العالم العربي.

شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحولات عميقة وشاملة على المستويات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية أحدثت تغييرات جذرية في بنية المجتمعات والدول وفرضت واقعاً جديداً يفرض على الفاعلين السياسيين مراجعة أدواتهم وأساليبهم في التعاطي مع التحديات وفي خضم هذا السياق المتغيّر تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة تقييم مسارات العمل السياسي والفكري في العالم العربي بعد أن تبيّن فشل الرهانات الكبرى على الأيديولوجيات الجامدة والشعارات العاطفية في إحداث تغيير فعلي وملموس .
سقوط الأيديولوجيات وتراجع الخطاب العاطفي
منذ منتصف القرن العشرين سيطرت الأحزاب الأيديولوجية – القومية الشيوعية والدينية – على المشهد السياسي العربي إلا أنّ التجربة أثبتت أن هذه التيارات لم تتمكن من تقديم إجابات واقعية لمتطلبات التنمية والعدالة والاستقرار ٠ فالشعارات التي رفعتها مثل أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة أو الإسلام هو الحل،د ظلّت حبيسة الخطاب ولم تُترجم إلى برامج اقتصادية أو اجتماعية قابلة للتنفيذ رغم ما تحمله من رمزية ثقافية وتاريخية تحوّلت هذه الشعارات إلى أدوات للهروب من الاستحقاقات الداخلية أو لحشد التأييد الجماهيري بل وغالبًا ما استُخدمت لتبرير الاستبداد وتأجيل الإصلاحات الجوهرية. وهكذا انحرف الخطاب السياسي عن غايته التنموية إلى مجال المزايدات والشعارات الفارغة
أزمة النماذج المثالية بين النظرية والتطبيق
حتى النماذج الفكرية التي طرحت نفسها بدائل للرأسمالية مثل الاشتراكية والشيوعية واجهت صعوبات جذرية في التطبيق العملي فالشعارات الإنسانية الرفيعة كـ من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب حاجته اصطدمت بواقع الطبيعة البشرية المعقدة ورغبة الأفراد في التملك والتحكم بمصيرهم الاقتصادي مما أدى إلى انهيار تلك النماذج أو تحوّلها إلى صيغ هجينة لا تحمل جوهرها الأول
فشل الشعارات في تحقيق التنمية والعدالة
لقد اظهرت تجربة العالم العربي بوضوح أن الشعارات مهما كانت بليغة لا تستطيع أن تعالج البطالة أو تصلح التعليم أو تواجه أزمات الطاقة فغياب المؤسسات الرصينة واستفحال الفساد واستمرار الاستبداد كلّها عوامل تجعل من الشعارات وسيلة لتضليل الجماهير أكثر من كونها مشروعاً للإصلاح الحقيقي .
ولعلّ شعار سنقاتل إسرائيل ومن وراء إسرائيل يمثّل نموذجًا عن الخطاب الانفعالي غير الواقعي إذ أثبتت الوقائع أن التفوق العسكري لا يُبنى بالخطب بل عبر الاقتصاد المتماسك والجيش المحترف والمجتمع الموحد القائم على العدالة والمساواة
الكفاءة بدل العقيدة في عالم ما بعد الأيديولوجيا
دخل العالم اليوم مرحلة جديدة تُعرَف بـ ما بعد الأيديولوجيا حيث لم يعد الناخب في الدول المتقدمة أو حتى في كثير من الدول النامية يهتم بالمرجعية الفكرية للحزب بقدر ما يهتم بقدرة هذا الحزب على تحسين ظروفه المعيشية ٠
وهكذا تحوّلت الأحزاب السياسية إلى منصات لتقديم البرامج وأصبح التنافس يدور حول من ينجح في تنفيذ سياسات تنموية ناجحة ومحاربة الفساد وجذب الاستثمار وتوفير التعليم والرعاية الصحية وفرص العمل . وهذا ما يجب أن يحتذي به العالم العربي إن أراد تجاوز أزماته البنيوية ٠
التكنولوجيا ترسم ملامح المستقبل
لم تقتصر التحولات على السياسة والاقتصاد بل امتدت إلى التكنولوجيا التي أصبحت اليوم حجر الزاوية في التقدّم البشري فالذكاء الاصطناعي الاقتصاد الرقمي الطاقة المتجددة والتعليم النوعي كلها مفاتيح لمستقبل الدول ومكانتها في العالم .
في هذا السياق لم يعد يُقاس الأداء السياسي بالشعارات بل بالمؤشرات الواقعية مثل الناتج المحلي مستوى الابتكار جودة الحياة وكفاءة المؤسسات وبالتالي فإن بناء دولة حديثة لا يتحقق إلا عبر سياسات واضحة في دعم البحث العلمي تمكين الشباب وتطوير التعليم بعيداً عن الأيديولوجيا المتخشبة ٠
خلاصة : من الرومانسية الثورية إلى البراغماتية النهضوية
المرحلة القادمة تفرض على العقل السياسي العربي أن يُعيد صياغة أولوياته لقد آن أوان مغادرة مربّع الخطاب العاطفي وإخراج السياسة من قفص الأيديولوجيا المغلقة نحو أفق أوسع من الواقعية والتنمية المستدامة والعمل المؤسسي .
فلا الدول تُبنى بالأمنيات ولا الشعوب ترتقي بالخطب ٠
السبيل الوحيد للنهضة يكمن في المشاريع الواقعية والتخطيط العلمي والإدارة الرشيدة والانخراط الجاد في مشروع تنموي عقلاني يُؤسَّس على الكفاءة ويُدار من قبل أصحاب الخبرة والاختصاص
لم تعد الثورات والانقلابات تجلب التغيير المنشود بل الوعي والبرامج والعمل المنهجي الطويل النفس هو الطريق الوحيد لتجاوز المأزق التاريخي الذي عانت منه الشعوب العربية لعقود طويلة ٠



















