أ.د. صلحي الشحاتيت. يكتب :عدوى التصنيفات العالمية للجامعات: الواقع والحقيقة… أليس منّا رجل رشيد؟

أ.د. صلحي الشحاتيت *أستاذ الكيمياء، جامعة مؤتة.
*رئيس سابق لجامعة العقبة للتكنولوجيا.
في العقد الأخير، تصاعدت وتيرة اهتمام الجامعات العربية بالتنافس في التصنيفات العالمية، وأضحى التقدم في تصنيفات مثل QS وTimes Higher Education هدفًا تعتمده بعض المؤسسات في صلب استراتيجياتها. وبقدر ما تبدو هذه المساعي مظهرًا من مظاهر الطموح الأكاديمي المشروع، إلا أن المبالغة في الانشغال بالموقع الرقمي للجامعة على قوائم التصنيف قد تحوّلت إلى ما يشبه “عدوى مؤسسية” لا تُقرأ أبعادها بوعي كافٍ.
تعتمد التصنيفات العالمية على معايير متعددة، منها السمعة الأكاديمية، ومعدل النشر العلمي، وعدد الطلبة الدوليين، ونسبة أعضاء هيئة التدريس إلى الطلبة، بالإضافة إلى الاستشهادات البحثية والشراكات الدولية. وعلى الرغم من أن هذه المعايير تُستخدم على نطاق واسع، إلا أنها في غالب الأحيان لا تعكس الأولويات الحقيقية لمجتمعاتنا ولا تأخذ بالاعتبار الفجوة الهائلة بين البيئة الأكاديمية الغربية وبين واقع التعليم العالي العربي.
واقع عربي متباين
تشير بيانات تصنيف QS للجامعات العربية لعام 2024 إلى أن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن تصدّرت القائمة، تلتها جامعة الملك سعود، ثم جامعة قطر، بينما كانت مصر الدولة الأكثر تمثيلاً بـ36 جامعة. ومع أهمية هذا الحضور العددي، إلا أن نوعية التقدم تبقى محل نقاش، إذ إن بعض الجامعات تسعى لتحسين ترتيبها من خلال التركيز على النشر الكمي في مجلات مصنفة، دون التوقف عند جودة المحتوى العلمي أو علاقته بقضايا التنمية الوطنية.
وبينما تنخرط بعض الجامعات الخليجية في شراكات بحثية مع مؤسسات دولية مرموقة بهدف بناء قدرات بحثية مستدامة، تُعيد مؤسسات أخرى توجيه سياساتها ومواردها فقط لتلبية متطلبات التصنيفات، حتى وإن كان ذلك على حساب البنية الأكاديمية الداخلية أو جودة العملية التعليمية.
جوهر الجامعة لا يُقاس برقم
إن التجارب العالمية تُثبت أن التصنيف العالي لا يُشترى ولا يُستجدى، بل يُكتسب عبر منظومة متكاملة من التعليم الجيد، والبحث الجاد، وخدمة المجتمع. فجامعات مثل هارفارد أو MIT لم تصعد في التصنيفات لأنها استهدفت ذلك، بل لأن بنيتها الأكاديمية والأخلاقية تدعم الإبداع والابتكار والمعرفة المتجددة.
أما إذا تحوّلت التصنيفات إلى غاية بحد ذاتها، فإننا بذلك نخاطر بأن تصبح جامعاتنا واجهات تجميلية تُسهم في تزييف الواقع بدل تغييره. وهنا مكمن الخطر الحقيقي.
دعوة إلى مراجعة المسار
لسنا ضد التصنيفات، ولا ضد التميز الأكاديمي، ولكننا ضد أن يتحوّل الترتيب العالمي إلى هوس يُقصي الهدف الحقيقي للجامعة، وهو بناء العقل، وتوليد المعرفة، وخدمة المجتمع. فالجامعة ليست شركة علاقات عامة، ولا مجمعًا تجاريًا للمؤشرات الرقمية، بل هي مؤسسة للنهضة.
لذا، فإن التحدي الأكبر اليوم هو أن نعيد بناء فلسفة التعليم العالي على أسس من الأصالة، والاستقلالية، والمسؤولية الاجتماعية، بعيدًا عن الانبهار بالمظاهر.
ويبقى السؤال مطروحًا بإلحاح:
أليس منّا رجل رشيد يعيد للجامعة رسالتها قبل أن تختزل في رقم على قائمة؟



















