د- إسراء بن طريف تكتب - تسعة وسبعون عامًا من المجد... ولا زال النشيد يُغنّى

في الخامس والعشرين من أيار من كل عام، لا نحتفل بيومٍ عابر، بل نسترجع لحظة تاريخية غيّرت وجه الوطن. في مثل هذا اليوم من عام 1946، أعلن الأردنيون استقلالهم الكامل، فخرجوا من عباءة الانتداب البريطاني، وبدأوا في رسم ملامح دولة حديثة، ذات سيادة، تقف بين الأمم مرفوعة الرأس. كان ذلك اليوم ولادةً جديدة لوطنٍ وُلد من رحم الكرامة، وشقّ طريقه وسط العواصف والأطماع، لكنه صمّم أن يكون سيد نفسه، لا تابعًا لأحد .
الاستقلال لم يكن هدية، بل ثمرة نضال طويل قاده رجالات الأردن، وعلى رأسهم الملك المؤسس عبدالله الأول بن الحسين، الذي آمن بأن الأردن يستحق أن يكون له قراره، علمه، وشعبه الحر. ومنذ تلك اللحظة، بدأ الأردنيون معركتهم الثانية: معركة البناء. أرض قليلة الموارد، شعب صغير العدد، ومحيط ملتهب... لكنها كانت كافية لصنع معجزة أردنية عنوانها الإرادة والعزيمة.
واليوم، بعد مرور تسعة وسبعين عامًا، ننظر إلى الوراء لا لنعيش الحنين، بل لنقيس حجم الطريق الذي قطعناه. وإذا كان الماضي قد بدأ برجال أوفياء، فإن الحاضر يستمر بقيادة حكيمة وشعبٍ لا يلين. وفي قلب هذا المشهد يقف جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، الذي حمل راية الوطن منذ عام 1999، وأثبت للعالم أن الاستقلال لا يعني فقط رفع علم، بل بناء وطن عصري قادر على مواكبة المتغيرات دون أن يفرّط بثوابته.
في عهد جلالته، دخل الأردن مرحلة جديدة من الإصلاح والتنمية الشاملة. لم تكن طريقًا سهلة، لكن الملك واجهها بحكمة القائد الذي يرى ما بعد اللحظة، فقاد إصلاحات سياسية رغم التعقيد، وفتح الباب أمام المشاركة الشعبية، ورسّخ دولة القانون والمؤسسات. وعلى الصعيد الاقتصادي، ورغم الأزمات العالمية والضغوط الإقليمية، بقي الأردن واقفًا، محافظًا على أمنه واستقراره، ونجح في جذب الاستثمار، وتطوير البنية التحتية، ودعم التعليم والصحة وتمكين المرأة والشباب.
جلالة الملك لم يكن قائدًا إداريًا فقط، بل كان صوت الأردن في المحافل الدولية. حمل القضية الفلسطينية في قلب خطابه، دافع عن القدس، ورفض كل محاولات التصفية والتهميش، وتحدث باسم أمته حين سكت الكثيرون. لم يرضَ للأردن أن يكون تابعًا، بل صانعًا لمواقفه، حاضرًا في المشهد، لا على الهامش. وحتى في أحلك الظروف، بقي الجيش العربي على الحدود، وبقي الأمن مستتبًا في الداخل، لأن خلفه قائد يقرأ التهديدات قبل أن تقع، ويؤمن أن كرامة المواطن من كرامة الدولة.
نحن لا نُغنّي في ذكرى الاستقلال من باب العادة، بل من باب الإيمان العميق أن هذا الوطن يستحق أن نفتخر به. كل شاب أردني يعمل بإخلاص، كل معلمة تُخرّج الأجيال، كل جندي على الجبهة، كل أم تربي أبناءها على حب الوطن، هم امتداد حقيقي لمعنى الاستقلال. وإن كنّا قد ورثنا الاستقلال من جيل الآباء، فإننا مسؤولون اليوم أن نُورثه للأبناء مفعمًا بالمعنى، لا بالاحتفال فقط. الوطن لا يُبنى بشعارات، بل بسلوكنا اليومي، بأمانتنا، بأخلاقنا، بصدقنا في العمل، وبرفضنا للفساد والكسل والتقصير.
هذا الأردن ليس وطنًا عاديًا، بل هو نموذج مختلف، استطاع أن يوازن بين الثوابت والانفتاح، بين الحكمة والحزم، بين كونه ملاذًا آمنًا لكل مظلوم، وحصنًا متينًا لأبنائه. وفي ظل قيادة جلالة الملك عبدالله الثاني، يستمر الحلم، وتُكتب فصولٌ جديدة من الإنجاز، تُبنى فيها المدارس، وتُرسل فيها المركبات إلى الفضاء، ويقف فيها شباب الأردن في مؤسسات الدولة ومواقع الإبداع بثقةٍ بأنهم أبناء وطنٍ لا يعرف المستحيل.
وفي يوم كهذا، يحق لنا أن نقف بفخر، لا فقط على ما أنجزنا، بل على ما سننجزه. يحق لنا أن نقول لأبنائنا: هذا هو الأردن... وطن وُلد من الكفاح، ونما على الشرف، وبُني بسواعد أبنائه وصدق قادته. تسعة وسبعون عامًا من المجد، وما زال النشيد يُغنّى.
و"ما زال النشيد يُغنّى" ليست مجرد عبارة، بل شهادة على أن الروح الوطنية لم تخفت، وأن الحلم الأردني ما زال حيًّا في كل قلبٍ ينبض بحب الوطن. هو صوت الأمل الذي لم يصمت، وصوت الانتماء الذي يتجدد مع كل جيل. النشيد يُغنّى لأن الأردن باقٍ، ولأننا ما زلنا نؤمن، نُحب، ونعمل. لأنه ما دام النشيد حاضرًا، فمعناه أن الوطن حي، والمجد مستمر، والراية لا تزال مرفوعة



















