د عاطف زريقات. يكتب: الاستنزاف كخيار استراتيجي من ديغول إلى أوكرانيا... والعرب خارج الحسابات

في ذروة الحرب الباردة التقط الجنرال شارل ديغول ببصيرته الاستراتيجية طبيعة الصراع المستقبلي بين القوتين العظميين حين قال :
الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لن يدخلا في حرب مباشرة بل في سباق تسلّح طويل ومن يُنهك أولاً ينهار .
بهذا التوصيف المبكر وضع ديغول حجر الأساس لفهم واحدة من أخطر أدوات الصراع الجيوسياسي المعاصر وهي استراتيجية الاستنزاف إنها ليست حرباً تقليدية تُخاض بالسلاح بل مواجهة بطيئة تُدار عبر وكلاء وضغوط اقتصادية وسباقات تسلح وحروب إعلامية ونفسية بهدف إنهاك الخصم دون الانخراط في مواجهة مباشرة ٠
أولاً : من سباق التسلح إلى تفكك الاتحاد السوفيتي
خلال العقود الأخيرة من الحرب الباردة جسّدت واشنطن هذه الاستراتيجية بامتياز عندما دفعت موسكو إلى سباق تسلّح غير متكافئ بلغ ذروته بمشروع حرب النجوم الذي أطلقه الرئيس ريغان ورغم امتلاك السوفييت ترسانة نووية هائلة فإنهم عجزوا عن مجاراة القدرات الاقتصادية والتكنولوجية الأمريكية مما أدى إلى استنزاف بنيوي داخل الدولة : اقتصاد مترهّل وبيروقراطية متكلسة وتآكل في شرعية النظام .
وهكذا لم يكن سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 نتيجة لهزيمة عسكرية بل نتيجة لانهيار داخلي تراكمي بفعل استنزاف طويل الأمد
ثانياً : حرب أوكرانيا واستنزاف القرن الحادي والعشرين
بعد عقود عادت الاستراتيجية ذاتها بثوب جديد في مواجهة روسيا الاتحادية تحوّلت أوكرانيا إلى ساحة استنزاف مركّب تديرها واشنطن بدقة عبر دعم عسكري واقتصادي لكييف وفرض عقوبات خانقة على موسكو وتحشيد سياسي وإعلامي غربي منظم ٠
لكن الاستنزاف هنا تجاوز حدود روسيا إذ طالت آثاره أوروبا التي وجدت نفسها تدفع فاتورة الحرب عبر أزمات طاقة وتضخم اقتصادي وتبعية سياسية متزايدة للولايات المتحدة وهكذا نجحت واشنطن ليس فقط في إنهاك خصومها بل أيضاً في إعادة هندسة النظام الغربي بما يخدم مصالحها ويُبقي حلفاءها تحت الضغط ٠
أما روسيا فتحاول بدورها تحويل الصراع إلى حرب وجودية لتحقيق مكاسب استراتيجية تُرضي الداخل . لكنها إن لم تُحقق إنجازاً حاسماً قد تجد نفسها تسير في طريق مشابه لانهيار سابقتها السوفييتية ٠
ثالثاً : العرب واستراتيجية الغياب
في المقابل تكشف التجربة العربية عن غياب شبه تام لرؤية استراتيجية مماثلة رغم وجود حاجة ملحّة لها خاصة في مواجهة المشروع الصهيوني فمنذ تأسيس إسرائيل اعتمدت تل أبيب على الحروب الخاطفة إدراكاً لعدم قدرة الدولة على تحمل استنزاف طويل الأمد ٠
ورغم ذلك أثبتت تجربة المقاومة في غزة إمكانية تحويل الاستنزاف غير النظامي إلى أداة فعالة لخلخلة ميزان الردع فقد استطاعت الفصائل الفلسطينية رغم محدودية الإمكانات أن تُربك الجيش الإسرائيلي وتُرهق خططه من خلال استمرارية المواجهة لكن هذه التجربة ومع أهميتها بقيت محصورة في الإطار الفصائلي دون أن تتحول إلى مشروع عربي جامع بسبب الانقسام السياسي وغياب التنسيق وتراجع أولوية القضية الفلسطينية في السياسات الرسمية ٠
رابعاً : الاستنزاف الاقتصادي... الوجه الجديد للصراع
لم تعد الحرب في العصر الحديث تُخاض فقط بالسلاح بل باتت تُدار في ميادين الاقتصاد فالولايات المتحدة تُمارس اليوم أشكالاً متعددة من الاستنزاف الاقتصادي من السيطرة على الأسواق والموارد إلى توجيه الاستثمارات وفرض العقوبات كأدوات ضغط استراتيجية سواء في أوكرانيا أو إفريقيا أو الخليج ٠
نجحت واشنطن في تحويل الأزمات إلى فرص فتُموّل حروبها من جيوب الآخرين وتُبقي خصومها تحت الحصار الاقتصادي والنفسي فيما يبقى العرب خارج معادلات التأثير بل مجالًا خصباً للاستثمار الجيوسياسي .
خامساً : ما بعد الربيع العربي... أولويات ضيقة وأحلام مؤجلة
لم يكن غياب العرب عن معادلة الاستنزاف نتيجة خلل عابر بل امتداد لتحوّل بنيوي عمّقته التحولات بعد الربيع العربي فمع صعود الدولة القُطْرية كمرجعية سياسية وحيدة وتفكك المشاريع القومية تراجعت القضايا الكبرى وعلى رأسها القضية الفلسطينية
ومع تصدع النظام السوري وتباين أولويات الدول العربية وتكاثر التحالفات الدولية المتناقضة لم يُبنَ مشروع وحدوي أو استراتيجي مشترك بل تحولت الصراعات إلى ملفات تفاوضية مشلولة بدل أن تكون أدوات استنزاف ضاغطة تُرغم العدو على إعادة حساباته
الخاتمة : بين الحضور والغياب
من الحرب الباردة إلى حرب أوكرانيا تمسّكت الولايات المتحدة باستراتيجية الاستنزاف كأداة فعّالة لإضعاف الخصوم دون التورط المباشر وعلى الضفة الأخرى ظل العرب خارج مشهد الصراع العالمي لا كقوة فاعلة ولا حتى كحليف مزعج بل كمساحة فراغ تُملأ بمصالح الآخرين .
يبقى السؤال المعلّق :
هل سيظل العرب مستهلكين لاستراتيجيات القوى الكبرى؟ أم آن الأوان للتفكير في مشروع استنزاف طويل النفس يُعيد حضورهم إلى طاولة التفاوض لا الهامش؟
للأسف لا يبدو أن الظروف مهيأة لذلك فالانقسامات أعمق من أن تُرمم بخطابات أو قمم رمزية والقضية الفلسطينية رغم رمزيتها لم تعد في صدارة الأولويات الرسمية الا عند القليلين بل غدت بنداً شبه مؤجلاً في دفتر التوازنات الهشة مع كل ما يحدث من هول الأحداث الجاريه التي ستطال الجميع ٠



















