د عاطف نايف زريقات يكتب : الانقلابات العسكرية في العالم العربي : أداة للتغيير أم طريق إلى التفكك؟

شهد العالم العربي منذ منتصف القرن العشرين موجة من الانقلابات العسكرية التي أعادت تشكيل المشهد السياسي في عدد من دوله المحورية مثل مصر وسوريا والعراق وامتدت لاحقاً إلى اليمن وليبيا والسودان وغيرها ورغم ترويج هذه الانقلابات على أنها ثورات ضد الاستعمار والتخلف والرجعية فإن كثيراً منها أفرز أنظمة استبدادية جديدة أسهمت عن قصد أو عن غير قصد في إضعاف البنية السياسية العربية وتقويض فرص النهضة وإرباك المشروع القومي الجامع ٠
أولاً : الانقلاب العسكري كأداة للتغيير السياسي
جاءت الانقلابات في سياقات تاريخية اتسمت بالاحتلال الأجنبي والتفاوت الطبقي وفشل الأنظمة الملكية أو الليبرالية الناشئة في تلبية تطلعات الشعوب في الاستقلال والتنمية وكان انقلاب يوليو 1952 في مصر مثالاً مبكراً على تدخل المؤسسة العسكرية في الحكم مستنداً إلى شعارات وطنية واجتماعية جذابة غير أن التجربة وعلى الرغم من بداياتها الواعده سرعان ما تحوّلت إلى حكم فردي مركزي ألغى التعددية السياسية وقمع المعارضة وأسس لنموذج من الجمهوريات العسكرية الذي تكرّر لاحقاً في دول أخرى .
وتشهد سوريا على نمط متقلب من الانقلابات (1949، 1954، 1963، 1970 ) وكذلك العراق (1958، 1963، 1968)، حيث أصبحت الجيوش أطرافاً فاعلة في الحياة السياسية لاحاميات للدستور أو السيادة وجرى تهميش النخب المدنية لصالح تحالفات ضباطية وأيديولوجية غالباً تحت شعارات القومية والاشتراكية ومحاربة الإمبريالية ٠
ثانياً : الدور الخفي (والمعلن أحياناً) للتدخلات الأجنبية
لا يمكن فصل بعض الانقلابات العسكرية الكبرى في العالم العربي عن سياق الحرب الباردة وصراع النفوذ الدولي فقد كشفت الوثائق الأمريكية لاحقاً عن تورط مباشر أو غير مباشر لوكالات استخباراتية غربية في دعم بعض هذه التحركات ٠ كان انقلاب حسني الزعيم في سوريا عام 1949 محل ترحيب أمريكي لتسهيل مشاريع نفطية إقليمية ونفذ سامي الحناوي انقلاب على الزعيم بمساعدة بريطانيه ضمن الصراع على النفوذ بينما نُفذ انقلاب 1963 في العراق بغطاء من وكالة الاستخبارات المركزية CIA التي رأت في صعود البعثيين سداً أمام التمدد الشيوعي بعد توجه عبدالكريم قاسم نحو الاتحاد السوفيتي وإعتماده على الشيوعيين ومحاربة التيارات الاسلاميه التي تُكفر الشيوعيين والقوميين والتي كانت تلقى دعماً غربياً خوفاً من تنامي وتمدد النفوذ السوفييتي في دول الجوار . وفي حالات أخرى لم تكن القوى الأجنبية صانعة للانقلاب لكنها استفادت من نتائجه لتوجيه السياسات أو تصفية خصومها كما حدث في انقلابات ليبيا واليمن والسودان الأمر الذي يعكس تداخلاً خطيراً بين الداخل والخارج حيث أصبحت الجيوش أداة لإعادة ترتيب موازين القوى أكثر منها وسيلة للتغيير الوطني الحقيقي .
ثالثاً : النتائج السياسية والاجتماعية للانقلابات
أنتجت الانقلابات العسكرية العربية مجموعة من التحولات السلبية بعيدة المدى من أبرزها :
-- تعليق الحياة الدستورية وتعطيل البرلمانات
-- حظر الأحزاب السياسية وتحويل الدولة إلى جهاز أمني مركزي . وصعود ظاهرة الحزب الواحد أو الزعيم الأوحد مما ألغى التداول السلمي للسلطة وأغلق أبواب المحاسبة والرقابة
-- تحول الجيوش إلى أدوات حكم بدلاً من مؤسسات دفاع وطني مما زج بها في صراعات داخلية واستنزف مواردها ومصداقيتها ٠
-- إقصاء النخب المدنية والفكرية وخلق فراغ سياسي استغلته لاحقًا تيارات متطرفة أو معارضة مسلّحة ٠
-- تفكك الموقف العربي المشترك بسبب تباين أيديولوجيات الأنظمة الجديدة وتصاعد الصراعات بين ما سُمّي بالدول الثورية وتلك المحافظة وأحياناً تحالفت بعض هذه الأنظمة مع قوى خارجية ضد جيرانها ٠
رابعاً : من خطاب الوحدة إلى واقع الانقسام
رُفعت شعارات الوحدة العربية في سياق العديد من الانقلابات لكن الواقع سار في اتجاه معاكس فقد انتهت تجربة الوحدة بين مصر وسوريا (1958-1961) سريعاً وولّد فشلها خيبة أمل قومية وصدمه كبيره للرئيس عبدالناصر . وتفاقمت التناقضات بين البعثيين والناصريين وحتى بين فصائل البعث نفسه كما في حالتي دمشق وبغداد ٠
وحرب اليمن (1962-1970 والتي تجددت بعد انقلاب الحوثيين لكن بمعطيات اخرى )
مثال صارخ على انتقال الخلافات العربية إلى ساحات نزاع مسلح حيث تدخلت جيوش عربية في صراع داخلي طويل استنزف الموارد وشتت الأولويات وعمّق الانقسامات الإقليمية ٠
خامساً : إرث الانقلابات في الواقع العربي المعاصر
يرزح العالم العربي اليوم تحت عبء ثقيل خلّفته تلك الانقلابات يتمثل في :
-- أنظمة حكم ضعيفة الشرعية تفتقر إلى التوافق الوطني .
-- مؤسسات شكلية أو منهارة تعجز عن القيام بوظائفها الأساسية ٠-- مجتمعات ممزقة بين ولاءات متنافرة للعسكر أو للدين أو للقبيلة او للطائفه ٠
-- اقتصادات متعثرة تشكو من الفساد وسوء الإدارة وغياب الرؤية التنموية ٠
وقد ساهم استمرار الحكم العسكري ولو بواجهات مدنية في وأد محاولات التحول الديمقراطي كما ظهر في مصر بعد 2011 أو في السودان عقب سقوط البشير الأمر الذي جعل من التغيير السلمي والمُستدام أمراً بالغ الصعوبة بل محفوفاً بالمخاطر والانقسامات ٠
إن الحديث عن الانقلابات العسكرية لا ينبغي أن يُفهم كتجريم للجيش كمؤسسة ولا تبرئة للأنظمة التي أطاحت بها تلك الانقلابات بل المطلوب هو مراجعة نقدية عميقة لهذه التجارب التي تشابهت في سياقاتها ونتائجها وأنتجت في معظمها أنظمة استبدادية فشلت في تحقيق التنمية أو بناء مؤسسات ديمقراطية أو حماية المشروع القومي العربي .
لقد كانت بعض الانقلابات في لحظتها تبدو واعدة أو ضرورية لكن تحوّلها إلى الية للحكم الفردي والمصالح الفئوية جعل منها عبئاً تاريخياً لا يزال العالم العربي يدفع ثمنه حتى اليوم في شكل تشرذم سياسي وعنف اجتماعي وعجز استراتيجي في مواجهة التحديات الكبرى من فلسطين القضية الأولى للشعوب العربيه إلى الأمن الغذائي والمائي وصولاً إلى التبعية الاقتصادية والتدخلات الإقليمية والدولية المتزايدة في ظل ضعف وتفكك عربي .
هل آن الأوان لطرح السؤال الصعب :
هل كانت الإنقلابات طريقاً إلى التحرر ام باباً إلى الانهيار ؟



















